أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ
الْمُجَادَلَةِ: 2 فَالْمُشْرِكُ الَّذِي يَقُولُ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ وَيَنْسُبُ إِلَى مَنْ لَمْ يَلِدْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، وَلَدًا كَيْفَ لَا يَكُونُ قَوْلُهُ مُنْكَرًا؟ فَالصَّلَاةُ تَنْهَى عَنْ هَذِهِ الْفَحْشَاءِ، وَهَذَا الْمُنْكَرِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَبْدَ أَوَّلَ مَا يَشْرَعُ فِي الصَّلَاةِ يَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ، فَبِقَوْلِهِ اللَّهُ يَنْفِي التَّعْطِيلَ وَبِقَوْلِهِ أَكْبَرُ يَنْفِي التَّشْرِيكَ لِأَنَّ الشَّرِيكَ لَا يَكُونُ أَكْبَرَ مِنَ الشَّرِيكِ الْآخَرِ فِيمَا فِيهِ الِاشْتِرَاكُ، فَإِذَا قَالَ بِسْمِ اللَّهِ نَفَى التَّعْطِيلَ، وَإِذَا قَالَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نَفَى الْإِشْرَاكَ، لِأَنَّ الرَّحْمَنَ مَنْ يُعْطِي الْوُجُودَ بِالْخَلْقِ بِالرَّحْمَةِ، وَالرَّحِيمَ مَنْ/ يُعْطِي الْبَقَاءَ بِالرِّزْقِ بِالرَّحْمَةِ، فَإِذَا قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، أَثْبَتَ بِقَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ خلاف التعطيل وبقوله:
رَبِّ الْعالَمِينَ خلاف الإشراك، فإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ بِتَقْدِيمِ إِيَّاكَ نَفَى التَّعْطِيلَ وَالْإِشْرَاكَ وَكَذَا بِقَوْلِهِ:
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فإذا قال: اهْدِنَا الصِّراطَ نَفَى التَّعْطِيلَ لِأَنَّ طَالِبَ الصِّرَاطِ لَهُ مَقْصِدٌ والمعطل لا مقصد له، وبقوله: الْمُسْتَقِيمَ نَفَى الْإِشْرَاكَ لِأَنَّ الْمُسْتَقِيمَ هُوَ الْأَقْرَبُ وَالْمُشْرِكُ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ حَتَّى يَعْبُدَ صُورَةً صَوَّرَهَا إِلَهُ الْعَالَمِينَ، وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُمْ وَعِبَادَةُ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ أَقْرَبُ، وَعَلَى هَذَا إِلَى آخِرِ الصَّلَاةِ يَقُولُ فِيهَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَيَنْفِي الْإِشْرَاكَ وَالتَّعْطِيلَ، وَهَاهُنَا لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ الصَّلَاةَ أَوَّلُهَا لَفْظَةُ اللَّهِ وَآخِرُهَا لَفْظَةُ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لِيَعْلَمَ الْمُصَلِّي أَنَّهُ مِنْ أَوَّلِ الصَّلَاةِ إِلَى آخِرِهَا مَعَ اللَّهِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَقَدْ بَقِيَ مِنَ الصَّلَاةِ قَوْلُهُ وَأَشْهَدَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَالصَّلَاةُ عَلَى الرَّسُولِ وَالتَّسْلِيمُ، فَنَقُولُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ فِي آخِرِهَا دَخَلَتْ لِمَعْنًى خَارِجٍ عَنْ ذَاتِ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّلَاةَ ذِكْرُ اللَّهِ لَا غَيْرُ، لَكِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وَصَلَ بِالصَّلَاةِ إِلَى اللَّهِ وَحَصَلَ مَعَ اللَّهِ لَا يَقَعُ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ اسْتَقَلَّ وَاسْتَبَدَّ وَاسْتَغْنَى عَنِ الرَّسُولِ، كَمَنْ تَقَرَّبَ مِنَ السُّلْطَانِ فَيَغْتَرُّ بِذَلِكَ وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى النُّوَّابِ وَالْحُجَّابِ، فَقَالَ أَنْتَ فِي هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ بِهِدَايَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَغَيْرُ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ فَقُلْ مَعَ ذِكْرِي مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ إِذَا عَلِمْتَ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ بِبَرَكَةِ هِدَايَتِهِ فَاذْكُرْ إِحْسَانَهُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِذَا رَجَعْتَ مِنْ مِعْرَاجِكَ وَانْتَهَيْتَ إِلَى إِخْوَانِكَ فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ وَبَلِّغْهُمْ سَلَامِي كَمَا هُوَ تَرْتِيبُ الْمُسَافِرِينَ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَيْئَةَ الصَّلَاةِ هَيْئَةٌ فِيهَا هَيْبَةٌ فَإِنَّ أَوَّلَهَا وُقُوفٌ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ كَوُقُوفِ الْمَمْلُوكِ بَيْنَ يَدَيِ السُّلْطَانِ، ثُمَّ إِنَّ آخِرَهَا جُثُوٌّ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ كَمَا يَجْثُو بَيْنَ يَدَيِ السُّلْطَانِ مَنْ أَكْرَمَهُ بِالْإِجْلَاسِ، كَأَنَّ الْعَبْدَ لَمَّا وَقَفَ وَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ أَكْرَمَهُ اللَّهُ وَأَجْلَسَهُ فَجَثَا، وَفِي هَذَا الْجُثُوِّ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ مَنْ جَثَا فِي الدُّنْيَا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ هَذَا الْجُثُوَّ لَا يَكُونُ لَهُ جُثُوٌّ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا يَكُونُ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِي حَقِّهِمْ وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا مريم: 72 .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
لَمَّا ذَكَرَ أَمْرَيْنِ وَهُمَا تِلَاوَةُ الْكِتَابِ وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ بَيَّنَ مَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْإِتْيَانُ بِهِمَا عَلَى أَبْلَغِ وُجُوهِ التَّعْظِيمِ، فَقَالَ: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَأَنْتُمْ إِذَا ذَكَرْتُمْ آبَاءَكُمْ بِمَا فِيهِمْ مِنَ الصِّفَاتِ الْحَسَنَةِ تَنْبَشُّوا لِذَلِكَ وَتَذْكُرُوهُمْ بِمَلْءِ أَفْوَاهِكُمْ وَقُلُوبِكُمْ، لَكِنَّ ذِكْرَ اللَّهِ أَكْبَرُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى أَبْلَغِ وُجُوهِ التَّعْظِيمِ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ، وَهَذَا أَحْسَنُ صُنْعِكُمْ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ مَعَ حَذْفِ بَيَانِ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَقُلْ أَكْبَرُ مِنْ ذِكْرِ فُلَانٍ لِأَنَّ مَا نُسِبَ إِلَى غَيْرِهِ بِالْكِبَرِ فَلَهُ إِلَيْهِ نِسْبَةٌ، إِذًا لَا يُقَالُ الْجَبَلُ أَكْبَرُ مِنْ خَرْدَلَةٍ، وَإِنَّمَا يُقَالُ هَذَا الْجَبَلُ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ الْجَبَلِ فَأُسْقِطَ الْمَنْسُوبُ كَأَنَّهُ قَالَ وَلَذِكْرُ/ اللَّهِ لَهُ الْكِبَرُ لَا لِغَيْرِهِ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ فِي الصَّلَاةِ اللَّهُ أَكْبَرُ أَيْ له الكبر لا لغيره. ثم قال تعالى:
سورة العنكبوت (29) : الآيات 46 الى 47وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (47)