الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كَانَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقِفُ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ لَيْلَةً كَامِلَةً وَيَوْمًا «1» تَامًّا وَفِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ يَزِيدُ عَلَيْهِ، وَكَانَ لَهُ عَصًا يَتَّكِئُ عَلَيْهَا وَاقِفًا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ، ثُمَّ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ كَانَ وَاقِفًا عَلَى عَادَتِهِ فِي عِبَادَتِهِ إِذْ تُوُفِّيَ، فَظَنَّ جُنُودُهُ أَنَّهُ فِي الْعِبَادَةِ وَبَقِيَ كَذَلِكَ أَيَّامًا وَتَمَادَى شُهُورًا، ثُمَّ أَرَادَ اللَّهُ إِظْهَارَ الْأَمْرِ لَهُمْ، فَقَدَّرَ أَنْ أَكَلَتْ دَابَّةُ الْأَرْضِ عَصَاهُ فَوَقَعَ وَعُلِمَ حَالُهُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ كَانَتِ الْجِنُّ تَعْلَمُ مَا لَا يَعْلَمُهُ الْإِنْسَانُ فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ عِلْمُ الْغَيْبِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْإِنْسَانُ لَمْ يُؤْتَ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا فَهُوَ أَكْثَرُ الْأَشْيَاءِ الْحَاضِرَةِ لَا يَعْلَمُهُ، وَالْجِنُّ لَمْ تَعْلَمْ إِلَّا الْأَشْيَاءَ الظَّاهِرَةَ وَإِنْ كَانَتْ خَفِيَّةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ، وَتَبَيَّنَ لَهُمُ الْأَمْرُ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ إِذْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَهُ لَمَا بَقُوا فِي الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ ظَانِّينَ أَنَّ سُلَيْمَانَ حَيٌّ.
وَقَوْلُهُ: مَا لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْجِنِّ لَمْ يَكُونُوا فِي التَّسْخِيرِ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَكُونُ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ. ثم قال تعالى:
سورة سبإ (34) : آية 15لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)
لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ حَالَ الشَّاكِرِينَ لِنِعَمِهِ بِذِكْرِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ بَيَّنَ حَالَ الْكَافِرِينَ بِأَنْعُمِهِ، بِحِكَايَةِ أَهْلِ سَبَأٍ، وَفِي سَبَأٍ قِرَاءَتَانِ بِالْفَتْحِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ بُقْعَةٍ وَبِالْجَرِّ مَعَ التَّنْوِينِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ قَبِيلَةٍ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْآيَةَ لِسَبَأٍ وَالْفَاهِمُ هُوَ الْعَاقِلُ لَا الْمَكَانُ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارِ الْأَهْلِ وَقَوْلُهُ: آيَةٌ أَيْ مِنْ فَضْلِ رَبِّهِمْ، ثُمَّ بَيَّنَهَا بِذِكْرِ بَدَلِهِ بِقَوْلِهِ: جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيَّةُ آيَةٍ فِي جَنَّتَيْنِ، مَعَ أَنَّ بَعْضَ بِلَادِ الْعِرَاقِ فِيهَا آلَافٌ مِنَ الْجِنَانِ؟ وَأَجَابَ بِأَنَّ الْمُرَادَ لِكُلِّ وَاحِدٍ جَنَّتَانِ أَوْ عَنْ يَمِينِ بَلَدِهِمْ وَشِمَالِهَا جَمَاعَتَانِ مِنَ الْجَنَّاتِ، وَلِاتِّصَالِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ جَعَلَهَا جَنَّةً وَاحِدَةً، قَوْلُهُ: كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى تَكْمِيلِ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ/ حَيْثُ لَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْ أَكْلِ ثِمَارِهَا خَوْفٌ وَلَا مَرَضٌ، وَقَوْلُهُ: وَاشْكُرُوا لَهُ بَيَانٌ أَيْضًا لِكَمَالِ النِّعْمَةِ، فَإِنَّ الشُّكْرَ لَا يُطْلَبُ إِلَّا عَلَى النِّعْمَةِ الْمُعْتَبَرَةِ، ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ حَالَهُمْ فِي مَسَاكِنِهِمْ وَبَسَاتِينِهِمْ وَأَكْلِهِمْ أَتَمَّ بَيَانَ النِّعْمَةِ بِأَنْ بَيَّنَ أَنْ لَا غَائِلَةَ عَلَيْهِ وَلَا تَبِعَةَ فِي الْمَآلِ فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ: بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ أَيْ طَاهِرَةٌ عَنِ الْمُؤْذِيَاتِ لَا حَيَّةَ فِيهَا وَلَا عَقْرَبَ وَلَا وَبَاءَ وَلَا وَخَمَ، وَقَالَ: وَرَبٌّ غَفُورٌ أَيْ لَا عِقَابَ عَلَيْهِ وَلَا عَذَابَ فِي الْآخِرَةِ، فَعِنْدَ هَذَا بَانَ كَمَالُ النِّعْمَةِ حَيْثُ كَانَتْ لَذَّةً حالية خالية عن المفاسد المالية. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ مَا كَانَ مِنْ جَانِبِهِ ذَكَرَ مَا كَانَ مِنْ جَانِبِهِمْ فقال:
سورة سبإ (34) : الآيات 16 الى 17فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17)