لَمَا نَفَعَ الْكَافِرِينَ ذَلِكَ؟ فَنَقُولُ لَمَّا كَانَتِ الْعِبَادَةُ تَقَعُ لِدَفْعِ ضُرِّ الْمَعْبُودِ كَمَا يُعْبَدُ الْجَبَّارُ وَيُخْدَمُ مَخَافَةَ شَرِّهِ بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَيْسَ فِيهِمْ ذَلِكَ الْوَجْهُ الَّذِي يَحْسُنُ لِأَجْلِهِ عِبَادَتُهُمْ.
المسألة الثالثة: قال: هاهنا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ وَقَالَ فِي السَّجْدَةِ: عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ جعل المكذب هنالك العذاب وجعل المكذب هاهنا النَّارَ وَهُمْ كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِالْكُلِّ، وَالْفَائِدَةُ فِيهَا أَنَّ هُنَاكَ لَمْ يَكُنْ أَوَّلُ مَا رَأَوُا النَّارَ بَلْ كَانُوا هُمْ فِيهَا مِنْ زَمَانٍ بِدَلِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها، وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ السَّجْدَةِ: 20 أَيِ الْعَذَابَ الْمُؤَبَّدَ الَّذِي أَنْكَرْتُمُوهُ بِقَوْلِكُمْ: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً الْبَقَرَةِ: 80 أَيْ قُلْتُمْ إِنَّ الْعَذَابَ إِنْ وَقَعَ فَلَا يَدُومُ فَذُوقُوا الدائم، وهاهنا أَوَّلُ مَا رَأَوُا النَّارُ لِأَنَّهُ مَذْكُورٌ عَقِيبَ الْحَشْرِ وَالسُّؤَالِ فَقِيلَ لَهُمْ: هَذِهِ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ. ثم قال تعالى:
سورة سبإ (34) : آية 43وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا مَا هَذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا مَا هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43)
إِظْهَارًا لِفَسَادِ اعْتِقَادِهِمْ وَاشْتِدَادِ عِنَادِهِمْ حَيْثُ تَبَيَّنَ أَنَّ أَعْلَى مَنْ يَعْبُدُونَهُ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ لَا يَتَأَهَّلُ لِلْعِبَادَةِ لِذَوَاتِهِمْ كَمَا قَالُوا: سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا سَبَأٍ: 41 أَيْ لَا أَهْلِيَّةَ لَنَا إِلَّا لِعِبَادَتِكَ مِنْ دُونِهِمْ أَيْ لَا أَهْلِيَّةَ لَنَا لِأَنْ نَكُونَ مَعْبُودِينَ لَهُمْ وَلَا لِنَفْعٍ أَوْ ضُرٍّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا سبأ: 42 ثُمَّ مَعَ هَذَا كُلِّهِ إِذَا قَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَلَامًا مِنَ التَّوْحِيدِ وَتَلَا عَلَيْهِمْ آيَاتِ اللَّهِ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ لِلَّهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ آيَاتٍ دَالَّةً عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ أَنْكَرُوهَا وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ يَعْنِي يُعَارِضُونَ الْبُرْهَانَ بِالتَّقْلِيدِ وَقالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً وَهُوَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَيَدُلُّ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ الْمُوَحِّدَ كَانَ يَقُولُ فِي حَقِّ الْمُشْرِكِ إِنَّهُ يَأْفِكُ كَمَا قَالَ تعالى في حقهم: أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ الصَّافَّاتِ: 86 وَكَمَا قَالُوا هُمْ لِلرَّسُولِ: أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا الْأَحْقَافِ: 22 وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ أَيِ الْقُرْآنُ إِفْكٌ وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ قَوْلُهُ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا/ إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ إِشَارَةً إِلَى الْقُرْآنِ وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ إِشَارَةً إِلَى مَا أَتَى بِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَدَلًا عَنْ أَنْ يَقُولَ وَقَالُوا لِلْحَقِّ هُوَ أَنَّ إِنْكَارَ التَّوْحِيدِ كَانَ مُخْتَصًّا بِالْمُشْرِكِينَ، وَأَمَّا إِنْكَارُ الْقُرْآنِ وَالْمُعْجِزَاتِ فَقَدْ كَانَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ فَقَالَ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ على وجه العموم. ثم قال تعالى:
سورة سبإ (34) : الآيات 44 الى 45وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ مَا آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45)
وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ تَأْكِيدٌ لِبَيَانِ تَقْلِيدِهِمْ يَعْنِي يقولون عند ما تُتْلَى عَلَيْهِمُ الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ هَذَا رَجُلٌ كَاذِبٌ وَقَوْلُهُمْ: إِفْكٌ مُفْتَرىً مِنْ غَيْرِ بُرْهَانٍ وَلَا كِتَابٍ أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ وَلَا رَسُولٍ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ، فَالْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ لَا تُعَارَضَ إِلَّا بِالْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ، وَلَمْ يَأْتُوا بِهَا أَوْ بِالتَّقَلُّبَاتِ وَمَا عِنْدَهُمْ كِتَابٌ وَلَا رَسُولٌ غَيْرَكَ، وَالنَّقْلُ الْمُعْتَبَرُ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ خَبَرُ رَسُولِ اللَّهِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمْ كَالَّذِينِ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا مِثْلَ عَادٍ وَثَمُودَ، وَقَوْلُهُ