المسألة الثانية: قوله: أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وقطعها من أَصْطَفَى ثُمَّ بِحَذْفِ أَلِفِ الْوَصْلِ وَهُوَ اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ وَتَقْرِيعٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ الزُّخْرُفِ: 16 وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ الطُّورِ: 39 وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى النَّجْمِ: 21 وَكَمَا أَنَّ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ كُلَّهَا اسْتِفْهَامٌ فَكَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: لَكاذِبُونَ أَصْطَفَى مَوْصُولَةً بِغَيْرِ اسْتِفْهَامٍ، وَإِذَا ابْتَدَأَ كَسَرَ الْهَمْزَةَ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ وَالتَّقْدِيرُ اصْطَفَى الْبَنَاتِ فِي زَعْمِهِمْ كَقَوْلِهِ: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ الدُّخَانِ: 49 فِي زَعْمِهِ وَاعْتِقَادِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْجَنَّةِ عَلَى وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: قَالَ مُقَاتِلٌ:
أَثْبَتُوا نَسَبًا بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ حِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فالجنة هم الملائكة سموا جنا لاجتنانهم عَنِ الْأَبْصَارِ أَوْ لِأَنَّهُمْ خُزَّانُ الْجَنَّةِ، وَأَقُولُ هَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي مُشْكِلٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى أَبْطَلَ قَوْلَهُمُ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي كَوْنَ الْمَعْطُوفِ مُغَايِرًا لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنَّ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ الثَّانِي: قَالَ مُجَاهِدٌ قَالَتْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَمَنْ أُمَّهَاتُهُمْ؟ قَالُوا: سَرَوَاتُ الْجِنِّ، وَهَذَا أَيْضًا عِنْدِي بَعِيدٌ لِأَنَّ الْمُصَاهَرَةَ لَا تُسَمَّى نَسَبًا وَالثَّالِثُ: رَوَيْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ الْأَنْعَامِ: 100 أَنَّ قَوْمًا مِنَ الزَّنَادِقَةِ يَقُولُونَ: اللَّهُ وَإِبْلِيسُ أَخَوَانِ فَاللَّهُ الْخَيِّرُ الْكَرِيمُ وَإِبْلِيسُ هُوَ الْأَخُ الشِّرِّيرُ الْخَسِيسُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى:
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً الْمُرَادُ مِنْهُ هَذَا الْمَذْهَبُ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَقْرَبُ الْأَقَاوِيلِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَجُوسِ الْقَائِلِينَ بِيَزْدَانَ وَإِهْرَمَنَ «1» ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ أَيْ قَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ مُحْضَرُونَ النَّارَ وَيُعَذَّبُونَ وَقِيلَ الْمُرَادُ وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ أَنَّهُمْ سَيَحْضُرُونَ فِي الْعَذَابِ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي عَائِدٌ إِلَى الْجِنَّةِ أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى/ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَمَّا قَالُوا مِنَ الْكَذِبِ فَقَالَ: سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ وَفِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ وُجُوهٌ، قِيلَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمُحْضَرِينَ، يَعْنِي أَنَّهُمْ نَاجُونَ، وَقِيلَ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَقِيلَ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ مِنَ الْمُحْضَرِينَ، وَمَعْنَاهُ وَلَكِنَّ الْمُخْلِصِينَ بُرَآءُ مِنْ أَنْ يَصِفُوهُ بِذَلِكَ، وَالْمُخْلِصُ بِكَسْرِ اللَّامِ مَنْ أَخْلَصَ الْعِبَادَةَ وَالِاعْتِقَادَ لِلَّهِ وَبِفَتْحِهَا مَنْ أخلصه الله بلطفه والله أعلم.
سورة الصافات (37) : الآيات 161 الى 170فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165)
وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)