فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاذَا يَسْأَلُونَنِي، قَالُوا ارْفُضْنَا وَارْفُضْ ذِكْرَ آلِهَتِنَا وَنَدَعُكَ وَإِلَهَكَ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَعْطَيْتُكُمْ مَا سَأَلْتُمْ أَتُعْطُونِي أَنْتُمْ كَلِمَةً وَاحِدَةً تَمْلِكُونَ بِهَا الْعَرَبَ وَتَدِينُ لَكُمُ الْعَجَمُ؟ قَالُوا نَعَمْ، قَالَ تَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَامُوا وَقَالُوا:
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ أَيْ بَلِيغٌ فِي التَّعَجُّبِ وَأَقُولُ مَنْشَأُ التَّعَجُّبِ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ الْقَوْمَ مَا كَانُوا مِنْ أَصْحَابِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ بَلْ كَانَتْ أَوْهَامُهُمْ تَابِعَةً لِلْمَحْسُوسَاتِ فَلَمَّا وَجَدُوا فِي الشَّاهِدِ أَنَّ الْفَاعِلَ الْوَاحِدَ لَا تفي قدرته وعمله بِحِفْظِ الْخَلْقِ الْعَظِيمِ قَاسُوا الْغَائِبَ عَلَى الشَّاهِدِ، فَقَالُوا لَا بُدَّ فِي حِفْظِ هَذَا الْعَالَمِ الْكَثِيرِ مِنْ آلِهَةٍ كَثِيرَةٍ يَتَكَفَّلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِحِفْظِ نَوْعٍ آخَرَ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ أَسْلَافَهُمْ لِكَثْرَتِهِمْ وَقُوَّةِ عُقُولِهِمْ كَانُوا مُطْبِقِينَ عَلَى الشِّرْكِ، فَقَالُوا مِنَ الْعَجَبِ الْعَجِيبِ أَنْ يَكُونَ أُولَئِكَ الْأَقْوَامُ عَلَى كَثْرَتِهِمْ وَقُوَّةِ عُقُولِهِمْ كَانُوا جَاهِلِينَ مُبْطِلِينَ، وَهَذَا الْإِنْسَانُ الْوَاحِدُ يَكُونُ مُحِقًّا صَادِقًا، وَأَقُولُ لَعَمْرِي لَوْ سَلَّمْنَا إِجْرَاءَ حُكْمِ الشَّاهِدِ عَلَى الْغَائِبِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَحُجَّةٍ، لَكَانَتِ الشُّبْهَةُ الْأُولَى لَازِمَةً، وَلَمَّا تَوَافَقْنَا عَلَى فَسَادِهَا عَلِمْنَا أَنَّ إِجْرَاءَ حُكْمِ الشَّاهِدِ عَلَى الْغَائِبِ فَاسِدٌ قَطْعًا، وَإِذَا بَطَلَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فَقَدْ بَطَلَ أَصْلُ كَلَامِ الْمُشَبِّهَةِ فِي الذَّاتِ وَكَلَامُ الْمُشَبِّهَةِ فِي الْأَفْعَالِ، أَمَّا الْمُشَبِّهَةُ/ فِي الذَّاتِ فَهُوَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لَمَّا كَانَ كُلُّ مَوْجُودٍ فِي الشَّاهِدِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا وَمُخْتَصًّا بِحَيِّزٍ وَجَبَ فِي الْغَائِبِ أَنْ يَكُونَ كذلك، وأما الْمُشَبِّهَةُ فِي الْأَفْعَالِ فَهُمُ الْمُعْتَزِلَةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّ الْأَمْرَ الْفُلَانِيَّ قَبِيحٌ مِنَّا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَبِيحًا مِنَ اللَّهِ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ إِنْ صَحَّ كَلَامُ هَؤُلَاءِ الْمُشَبِّهَةِ فِي الذَّاتِ وَفِي الْأَفْعَالِ لَزِمَ الْقَطْعُ بِصِحَّةِ شُبْهَةِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ، وَحَيْثُ تَوَافَقْنَا عَلَى فَسَادِهَا عَلِمْنَا أن عمدة كلام الْمُجَسِّمَةِ وَكَلَامَ الْمُعْتَزِلَةِ بَاطِلٌ فَاسِدٌ. وَأَمَّا الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ فَلَعَمْرِي لَوْ كَانَ التَّقْلِيدُ حَقًّا لَكَانَتْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ لَازِمَةً وَحَيْثُ كَانَتْ فَاسِدَةً عَلِمْنَا أن التقليد باطل بقي هاهنا أبحاث:
البحث الأولى: أَنَّ الْعُجَابَ هُوَ الْعَجِيبُ إِلَّا أَنَّهُ أَبْلَغُ مِنَ الْعَجِيبِ كَقَوْلِهِمْ طَوِيلٌ وَطُوَالٌ وَعَرِيضٌ وَعُرَاضٌ وَكَبِيرٌ وَكُبَارٌ وَقَدْ يُشَدَّدُ لِلْمُبَالَغَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً نوح: 22 .
الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قُرِئَ عُجَابٌ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ فَقَالَ وَالتَّشْدِيدُ أَبْلَغُ مِنَ التَّخْفِيفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَكْراً كُبَّاراً.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَلَأَ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَوْمِ الَّذِينَ إِذَا حَضَرُوا فِي الْمَجْلِسِ فَإِنَّهُ تَمْتَلِئُ الْقُلُوبُ وَالْعُيُونُ مِنْ مَهَابَتِهِمْ وَعَظَمَتِهِمْ، وَقَوْلُهُ مِنْهُمْ أَيْ مِنْ قُرَيْشٍ انْطَلَقُوا عَنْ مَجْلِسِ أَبِي طالب، بعد ما بَكَتَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَوَابِ الْعَتِيدِ قَائِلِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ وَفِيهِ مَبَاحِثُ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ (أَنِ امْشُوا) وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ امْشُوا بِحَذْفِ أَنْ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» (أَنْ) بِمَعْنَى أَيْ لِأَنَّ الْمُنْطَلِقِينَ عَنْ مَجْلِسِ التَّقَاوُلِ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمُوا وَيَتَفَاوَضُوا فِيمَا يَجْرِي فِي الْمَجْلِسِ الْمُتَقَدِّمِ، فَكَانَ انْطِلَاقُهُمْ مُضَمَّنًا مَعْنَى الْقَوْلِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ يَمْشُونَ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: مَعْنَى أَنِ امْشُوا أَنَّهُ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ امْشُوا وَاصْبِرُوا، فَلَا حِيلَةَ لَكُمْ فِي دَفْعِ أَمْرِ مُحَمَّدٍ، إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: ظُهُورُ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ لَهُ سَبَبٌ ظَاهِرٌ يُثْبِتُ أَنَّ تَزَايُدَ ظُهُورِهِ لَيْسَ إِلَّا لِأَنَّ اللَّهَ يُرِيدُهُ، وَمَا أَرَادَ اللَّهُ كَوْنَهُ فَلَا دَافِعَ لَهُ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْأَمْرَ كَشَيْءٍ مِنْ نَوَائِبِ الدَّهْرِ فَلَا انْفِكَاكَ لَنَا مِنْهُ وَثَالِثُهَا: أَنَّ دِينَكُمْ لَشَيْءٌ يُرَادُ أَيْ يُطْلَبُ لِيُؤْخَذَ مِنْكُمْ، قَالَ الْقَفَّالُ هَذِهِ كَلِمَةٌ تُذْكَرُ لِلتَّهْدِيدِ وَالتَّخْوِيفِ وكأن