شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يَقُولُ: يَا محمد ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعطه وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ عَلَّمَنِيهَا، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ. ثُمَّ أَرْجِعُ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ مَا بَقِيَ فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ، أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ» ،
وَأَكْثَرُ هَذَا الْخَبَرِ مُخَرَّجٌ بِلَفْظِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْخَبَرِ وَأَمْثَالِهِ مِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ أَخْبَارٌ طَوِيلَةٌ فَلَا يُمْكِنُ ضَبْطُهَا بِلَفْظِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الرَّاوِيَ إِنَّمَا رَوَاهَا بِلَفْظِ نَفْسِهِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْهَا حُجَّةً، وَثَانِيهَا: أَنَّهَا خَبَرٌ عَنْ وَاقِعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنَّهَا رُوِيَتْ عَلَى وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ مَعَ الزِّيَادَاتِ وَالنُّقْصَانَاتِ، وَذَلِكَ أَيْضًا مِمَّا يَطْرُقُ التُّهْمَةَ إِلَيْهَا. وَثَالِثُهَا: أَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى التَّشْبِيهِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ أَيْضًا يَطْرُقُ التُّهْمَةَ إِلَيْهَا. وَرَابِعُهَا: أَنَّهَا وَرَدَتْ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ. وَذَلِكَ أَيْضًا يَطْرُقُ التُّهْمَةَ إِلَيْهَا. وَخَامِسُهَا: أَنَّهَا خَبَرٌ عَنْ وَاقِعَةٍ عَظِيمَةٍ تَتَوَافَرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهَا، فَلَوْ كَانَ صَحِيحًا لَوَجَبَ/ بُلُوغُهُ إِلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ وَحَيْثُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَقَدْ تَطَرَّقَتِ التُّهْمَةُ إِلَيْهَا، وَسَادِسُهَا: أَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ الَّذِي لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ فِي الْمَسَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ غَيْرُ جَائِزٍ. أَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْ هَذِهِ الْمَطَاعِنِ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَإِنْ كَانَ مَرْوِيًّا بِالْآحَادِ إِلَّا أَنَّهَا كَثِيرَةٌ جِدًّا وَبَيْنَهَا قَدْرٌ مُشْتَرِكٌ وَاحِدٌ وَهُوَ خُرُوجُ أَهْلِ الْعِقَابِ مِنَ النَّارِ بِسَبَبِ الشَّفَاعَةِ فَيَصِيرُ هَذَا الْمَعْنَى مَرْوِيًّا عَلَى سَبِيلِ التَّوَاتُرِ، فَيَكُونُ حُجَّةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْجَوَابُ عَلَى جَمِيعِ أَدِلَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ أَدِلَّتَهُمْ عَلَى نَفْيِ الشَّفَاعَةِ تُفِيدُ نَفْيَ جَمِيعِ أَقْسَامِ الشَّفَاعَاتِ، وَأَدِلَّتُنَا عَلَى إِثْبَاتِ الشَّفَاعَةِ تُفِيدُ إِثْبَاتَ شَفَاعَةٍ خَاصَّةٍ وَالْعَامُّ وَالْخَاصُّ إِذَا تَعَارَضَا قُدِّمَ الْخَاصُّ عَلَى الْعَامِّ فَكَانَتْ دَلَائِلُنَا مُقَدَّمَةً عَلَى دَلَائِلِهِمْ، ثُمَّ إِنَّا نَخُصُّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرُوهَا بِجَوَابٍ عَلَى حِدَةٍ:
أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ فَهَبْ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ إِلَّا أَنَّ تَخْصِيصَ مِثْلِ هَذَا الْعَامِّ بِذَلِكَ السَّبَبِ الْمَخْصُوصِ يَكْفِي فِيهِ أَدْنَى دَلِيلٍ، فَإِذَا قَامَتِ الدَّلَائِلُ الدَّالَّةُ عَلَى وُجُودِ الشَّفَاعَةِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى تَخْصِيصِهَا.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ غَافِرٍ: 18 فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ قَوْلَهُ: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ نَقِيضٌ لِقَوْلِنَا: لِلظَّالِمِينَ حَمِيمٌ وَشَفِيعٌ، لَكِنَّ قَوْلَنَا لِلظَّالِمِينَ:
حَمِيمٌ وَشَفِيعٌ مُوجَبَةٌ كُلِّيَّةٌ، وَنَقِيضُ الْمُوجَبَةِ الْكُلِّيَّةِ سَالِبَةٌ جُزْئِيَّةٌ، وَالسَّالِبَةُ يَكْفِي فِي صِدْقِهَا تَحَقُّقُ ذَلِكَ السَّلْبِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، وَلَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى تَحَقُّقِ ذَلِكَ السَّلْبِ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ، وَعَلَى هَذَا فَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجِبِهِ لِأَنَّ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَيْسَ لِبَعْضِ الظَّالِمِينَ حَمِيمٌ وَلَا شَفِيعٌ يُجَابُ وَهُمُ الْكُفَّارُ، فَأَمَّا أَنْ يُحْكَمَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِسَلْبِ الْحَمِيمِ وَالشَّفِيعِ فَلَا.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ الْبَقَرَةِ: 254 فَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُهُ: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ الْبَقَرَةِ: 270 فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ نَقِيضٌ لِقَوْلِنَا:
لِلظَّالِمِينَ أَنْصَارٌ وَهَذِهِ مُوجَبَةٌ كُلِّيَّةٌ فَقَوْلُهُ: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ سَالِبَةٌ جُزْئِيَّةٌ فَيَكُونُ مَدْلُولُهُ سَلْبَ الْعُمُومِ وَسَلْبُ الْعُمُومِ لَا يُفِيدُ عُمُومَ السَّلْبِ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الْخَامِسُ: وَهُوَ قَوْلُهُ: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ الْمُدَّثِّرِ: 48 فَهَذَا وَارِدٌ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ وَهُوَ يَدُلُّ بِسَبَبِ التَّخْصِيصِ عَلَى ضِدِّ هَذَا الْحُكْمِ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ.