جَزَاءُهُمْ عَلَيْهِ قِيلَ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَجَعَلَ الرُّؤَسَاءَ هُمُ الْمُقَدَّمِينَ وَجَعَلَ الْجَزَاءَ هُوَ الْمُقَدَّمُ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ:
قَدَّمْتُمُوهُ كِنَايَةٌ عَنِ الطُّغْيَانِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ وَقَوْلُهُ: فَبِئْسَ الْقَرارُ أَيْ بِئْسَ الْمُسْتَقَرُّ وَالْمَسْكَنُ جَهَنَّمُ، ثُمَّ قَالَتِ الْأَتْبَاعُ رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هَذَا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً أَيْ مُضَاعَفًا وَمَعْنَاهُ ذَا ضَعْفٍ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً الْأَعْرَافِ: 38 وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ الْأَحْزَابِ: 67، 68 فَإِنْ قِيلَ كُلُّ مِقْدَارٍ يُفْرَضُ مِنَ الْعَذَابِ فَإِنْ كَانَ بِقَدْرِ الِاسْتِحْقَاقِ لَمْ يَكُنْ مُضَاعَفًا، وَإِنْ كان زائدا عليه كان ظلما وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ. قُلْنَا الْمُرَادُ مِنْهُ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَكُونُ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ عَذَابَ الضلال، والثاني عذاب الإضلال والله أعلم.
وهاهنا آخِرُ شَرْحِ أَحْوَالِ الْكُفَّارِ مَعَ الَّذِينَ كَانُوا أَحْبَابًا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا شَرْحُ أَحْوَالِهِمْ مَعَ الَّذِينَ كَانُوا أَعْدَاءً لَهُمْ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ قَوْلُهُ: وَقالُوا مَا لَنا لَا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ يَعْنِي أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا نَظَرُوا إِلَى جَوَانِبِ جَهَنَّمَ فَحِينَئِذٍ يَقُولُونَ: مَا لَنا لَا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ يَعْنُونَ فُقَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَا يَؤُبَهُ بِهِمْ وَسَمَّوْهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ، إِمَّا بِمَعْنَى الْأَرَاذِلِ الَّذِينَ لَا خَيْرَ فِيهِمْ وَلَا جَدْوَى، أَوْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى خِلَافِ دِينِهِمْ فكانوا عندهم أشرارا ثم قالوا: أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ مِنَ الْأَشْرارِ أَتَّخَذْناهُمْ بِوَصْلِ أَلْفِ أَتَّخَذْناهُمْ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَبِالْوَصْلِ يُقْرَأُ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ مُتَقَدِّمٌ فِي قَوْلِهِ: مَا لَنا لَا نَرى رِجالًا، وَلِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَشُكُّونَ فِي اتِّخَاذِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا سِخْرِيًّا، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي الْمُؤْمِنُونَ: 110 فَكَيْفَ يَحْسُنُ أَنْ يَسْتَفْهِمُوا عَنْ شَيْءٍ عَلِمُوهُ؟ أَجَابَ الْفَرَّاءُ عَنْهُ بِأَنْ قَالَ هَذَا مِنَ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّعْجِيبُ وَالتَّوْبِيخُ، وَمِثْلُ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ جَائِزٌ عَنِ الشَّيْءِ الْمَعْلُومِ، أَمَّا وَجْهُ قَوْلِ مَنْ أَلْحَقَ الْهَمْزَةَ لِلِاسْتِفْهَامِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْمَصِيرِ إِلَيْهِ ليعادل قوله:
أَتَّخَذْناهُمْ بِأَمْ فِي قَوْلِهِ: أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ فَإِنْ قِيلَ فَمَا الْجُمْلَةُ الْمُعَادِلَةُ لِقَوْلِهِ: أَمْ زاغَتْ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى؟ قُلْنَا إِنَّهَا مَحْذُوفَةٌ وَالْمَعْنَى الْمَقْصُودُونَ هُمْ أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ سِخْرِيًّا بِضَمِّ السِّينِ وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا، وَقِيلَ هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَقِيلَ بِالْكَسْرِ هُوَ الْهُزْءُ وَبِالضَّمِّ هُوَ التَّذْلِيلُ وَالتَّسْخِيرُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي نَظْمِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ بِنَاءً عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ أَمَّا الْقِرَاءَةُ عَلَى سَبِيلِ الْإِخْبَارِ فَالتَّقْدِيرُ مَا لَنَا لَا نَرَاهُمْ حَاضِرِينَ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ لِحَقَارَتِهِمْ تَرَكُوا، أَوْ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ.
وَوَقَعَ التَّعْبِيرُ عَنْ حقارتهم بقولهم أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِفْهَامِ، فَالتَّقْدِيرُ لِأَجْلِ أَنَّا قَدِ اتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا وَمَا كَانُوا كَذَلِكَ فَلَمْ يَدْخُلُوا النَّارَ، أَمْ لِأَجْلِ أَنَّهُ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةَ قَالَ إِنَّ ذَلِكَ الَّذِي حَكَيْنَا عَنْهُمْ لَحَقٌّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنِ الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنْهُمْ مَا هُوَ، فَقَالَ: تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ وَإِنَّمَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى تِلْكَ الْكَلِمَاتِ تُخَاصُمًا لِأَنَّ قَوْلَ الرُّؤَسَاءِ لَا مَرْحَباً بِهِمْ وَقَوْلَ الْأَتْبَاعِ بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ مِنْ باب الخصومة.