إِلَى فِرْعَوْنَ وَطَبَقَتِهِ مَا كَانَ اللَّهُ وَعَدَ إِبْرَاهِيمَ أَنْ يَجْعَلَ فِي ذُرِّيَّتِهِ أَنْبِيَاءَ وَمُلُوكًا فَخَافُوا ذَلِكَ وَاتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمْ عَلَى إِعْدَادِ رِجَالٍ مَعَهُمُ الشِّفَارُ يَطُوفُونَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَا يَجِدُونَ مَوْلُودًا ذَكَرًا إِلَّا ذَبَحُوهُ، فَلَمَّا رَأَوْا كِبَارَهُمْ يَمُوتُونَ وَصِغَارَهُمْ يُذَبَّحُونَ خَافُوا الْفَنَاءَ فَحِينَئِذٍ لَا يَجِدُونَ مَنْ يُبَاشِرُ الْأَعْمَالَ الشَّاقَّةَ، فَصَارُوا يَقْتُلُونَ عَامًا دُونَ عَامٍ.
وَثَانِيهَا: قَوْلُ السُّدِّيِّ: إِنَّ فِرْعَوْنَ رَأَى نَارًا أَقْبَلَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى اشْتَمَلَتْ عَلَى بُيُوتِ مِصْرَ فَأَحْرَقَتِ الْقِبْطَ وَتَرَكَتْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَدَعَا فِرْعَوْنُ الْكَهَنَةَ وَسَأَلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالُوا: يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَنْ يَكُونُ هَلَاكُ الْقِبْطِ عَلَى يَدِهِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُنَجِّمِينَ أَخْبَرُوا فِرْعَوْنَ بِذَلِكَ وَعَيَّنُوا لَهُ السَّنَةَ فَلِهَذَا كَانَ يَقْتُلُ أَبْنَاءَهُمْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ وَالْأَقْرَبُ هُوَ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ الَّذِي يُسْتَفَادُ مِنْ عِلْمِ التَّعْبِيرِ وَعِلْمِ النُّجُومِ لَا يَكُونُ أَمْرًا مُفَصَّلًا وَإِلَّا قَدَحَ ذَلِكَ فِي كَوْنِ الْإِخْبَارِ عَنِ الْغَيْبِ مُعْجِزًا بَلْ يَكُونُ أَمْرًا مُجْمَلًا وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْعَاقِلِ أَنْ لَا يُقْدِمُ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ بِسَبَبِهِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ كَافِرًا بِاللَّهِ فَكَانَ بِأَنْ يَكُونَ كَافِرًا بِالرُّسُلِ أَوْلَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ بِسَبَبِ إِخْبَارِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْهُ. قُلْنَا: لَعَلَّ فِرْعَوْنَ كَانَ عَارِفًا بِاللَّهِ وَبِصِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا كُفْرَ الْجُحُودِ وَالْعِنَادِ أَوْ يُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ شَاكًّا مُتَحَيِّرًا فِي دِينِهِ وَكَانَ يُجَوِّزُ صِدْقَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَقْدَمَ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ احْتِيَاطًا.
الْبَحْثُ الْخَامِسُ: اعْلَمْ أَنَّ الْفَائِدَةَ فِي ذِكْرِ هَذِهِ النِّعْمَةِ مِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَتْ مِنْ أَعْظَمِ مَا يُمْتَحَنُ بِهِ النَّاسُ مِنْ جِهَةِ الْمُلُوكِ وَالظَّلَمَةِ صَارَ تَخْلِيصُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ مِنْ هَذِهِ الْمِحَنِ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ عَايَنُوا هَلَاكَ مَنْ حَاوَلَ إِهْلَاكَهُمْ وَشَاهَدُوا ذُلَّ مَنْ بَالَغَ فِي إِذْلَالِهِمْ وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ وَتَعْظِيمُ النِّعْمَةِ يُوجِبُ الِانْقِيَادَ وَالطَّاعَةَ، وَيَقْتَضِي نِهَايَةَ قُبْحِ الْمُخَالَفَةِ وَالْمُعَانَدَةِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ النِّعْمَةَ الْعَظِيمَةَ مُبَالَغَةً فِي إِلْزَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَقَطْعًا لِعُذْرِهِمْ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا أَنَّهُمْ كَانُوا فِي نِهَايَةِ الذُّلِّ وَكَانَ خَصْمُهُمْ فِي نِهَايَةِ/ الْعِزِّ إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا مُحِقِّينَ وَكَانَ خَصْمُهُمْ مُبْطِلًا لَا جَرَمَ زَالَ ذُلُّ الْمُحِقِّينَ وَبَطَلَ عِزُّ الْمُبْطِلِينَ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَا تَغْتَرُّوا بِفَقْرِ مُحَمَّدٍ وَقِلَّةِ أَنْصَارِهِ فِي الْحَالِ، فَإِنَّهُ مُحِقٌّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَنْقَلِبَ الْعِزُّ إِلَى جَانِبِهِ وَالذُّلُّ إِلَى جَانِبِ أَعْدَائِهِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُلْكَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، فَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَغْتَرَّ بِعِزِّ الدُّنْيَا بَلْ عَلَيْهِ السَّعْيُ فِي طَلَبِ عِزِّ الْآخِرَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ قَالَ الْقَفَّالُ: أَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنَ الِابْتِلَاءِ وَهُوَ الِاخْتِيَارُ وَالِامْتِحَانُ قَالَ تَعَالَى:
وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً الْأَنْبِيَاءِ: 35 وَقَالَ: وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ الْأَعْرَافِ: 168 .
وَالْبَلْوَى وَاقِعَةٌ عَلَى النَّوْعَيْنِ، فَيُقَالُ لِلنِّعْمَةِ بَلَاءٌ وَلِلْمِحْنَةِ الشَّدِيدَةِ بَلَاءٌ وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُقَالَ فِي الْخَيْرِ إِبْلَاءٌ وَفِي الشَّرِّ بَلَاءٌ وَقَدْ يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ. قَالَ زُهَيْرٌ:
جَزَى اللَّهُ بِالْإِحْسَانِ مَا فَعَلَا بِكُمْ
... وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
إذ عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْبَلَاءُ هَاهُنَا هُوَ الْمِحْنَةُ إِنْ أُشِيرَ بِلَفْظِ: «ذَلِكُمْ» إِلَى صُنْعِ فِرْعَوْنَ وَالنِّعْمَةُ إِنْ أُشِيرَ بِهِ إِلَى الْإِنْجَاءِ وَحَمْلُهُ عَلَى النِّعْمَةِ أَوْلَى لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي صَدَرَتْ مِنَ الرَّبِّ تَعَالَى، وَلِأَنَّ مَوْضِعَ الْحُجَّةِ عَلَى اليهود إنعام الله تعالى على أسلافهم.
سورة البقرة (2) : آية 50وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)