الْمَوْصُوفِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ الشَّرِيفَةِ الْمُقَدَّسَةِ، وَاشْتَغَلَ بِعِبَادَةِ هَذِهِ الْأَجْسَامِ الْخَسِيسَةِ، فَقَدْ بَلَغَ فِي الْجَهْلِ مَبْلَغًا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: أَيُّهَا الْجاهِلُونَ وَلَا شَكَّ أَنَّ وَصْفَهُمْ بِهَذَا الْأَمْرِ لَائِقٌ بِهَذَا الْمَوْضِعِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ، وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ التَّامَّ مَعَ الدَّلَائِلِ الْقَوِيَّةِ، وَالْجَوَابِ عَنِ الشُّبَهَاتِ فِي مَسْأَلَةِ الْإِحْبَاطِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَلَا نُعِيدُهُ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قُرِئَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ عَلَى/ الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَقُرِئَ بِالْيَاءِ وَالنُّونِ أَيْ: لَيُحْبِطْنَّ اللَّهُ أَوِ الشِّرْكُ وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ أُوحِيَ إِلَيْهِ وَإِلَى مَنْ قَبْلَهُ حَالَ شِرْكِهِ عَلَى التَّعْيِينِ؟ وَالْجَوَابُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: أُوحِيَ إِلَيْكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ، وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ مِثْلُهُ أَوْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَئِنْ أَشْرَكْتَ، كَمَا تَقُولُ كَسَانَا حُلَّةً أَيْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَّا.
السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّامَيْنِ؟ الْجَوَابُ الْأُولَى: مُوطِئَةٌ لِلْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ وَالثَّانِيَةُ: لَامُ الْجَوَابِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: كَيْفَ صَحَّ هَذَا الْكَلَامُ مَعَ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ رُسُلَهُ لَا يُشْرِكُونَ وَلَا تُحْبَطُ أَعْمَالُهُمْ؟
وَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ قَضِيَّةٌ شَرْطِيَّةٌ وَالْقَضِيَّةُ الشَّرْطِيَّةُ لَا يَلْزَمُ مِنْ صِدْقِهَا صِدْقُ جُزْأَيْهَا أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَكَ لَوْ كَانَتِ الْخَمْسَةُ زَوْجًا لَكَانَتْ مُنْقَسِمَةً بِمُتَسَاوِيَيْنِ قَضِيَّةٌ صَادِقَةٌ مَعَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ جُزْأَيْهَا غَيْرُ صَادِقٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا الْأَنْبِيَاءِ: 22 وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ هَذَا صِدْقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ فِيهِمَا آلِهَةً وَبِأَنَّهُمَا قَدْ فَسَدَتَا.
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ؟ وَالْجَوَابُ كَمَا أَنَّ طَاعَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ أَفْضَلُ مِنْ طَاعَاتِ غَيْرِهِمْ، فَكَذَلِكَ الْقَبَائِحُ الَّتِي تَصْدُرُ عَنْهُمْ فَإِنَّهَا بِتَقْدِيرِ الصُّدُورِ تَكُونُ أَقْبَحَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ الْإِسْرَاءِ: 75 فَكَانَ الْمَعْنَى ضِعْفَ الشِّرْكِ الْحَاصِلِ مِنْهُ، وَبِتَقْدِيرِ حُصُولِهِ مِنْهُ يَكُونُ تَأْثِيرُهُ فِي جَانِبِ غَضَبِ اللَّهِ أَقْوَى وَأَعْظَمَ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَدَّمَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ ذَكَرَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ فَقَالَ: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ مَا أَمَرُوهُ بِهِ مِنَ الْإِسْلَامِ بِبَعْضِ آلِهَتِهِمْ، كَأَنَّهُ قَالَ إِنَّكُمْ تَأْمُرُونَنِي بِأَنْ لَا أَعْبُدَ إِلَّا غَيْرَ اللَّهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ يُفِيدُ أَنَّهُمْ عَيَّنُوا عَلَيْهِ عِبَادَةَ غَيْرِ اللَّهِ، فَقَالَ اللَّهُ إِنَّهُمْ بِئْسَمَا قَالُوا وَلَكِنْ أَنْتَ عَلَى الضِّدِّ مِمَّا قَالُوا، فَلَا تَعْبُدْ إِلَّا اللَّهَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ يُفِيدُ الْحَصْرَ. ثُمَّ قَالَ: وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ عَلَى مَا هَدَاكَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلا عبادة الإله القادر عن الْإِطْلَاقِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ، وَعَلَى مَا أَرْشَدَكَ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْإِعْرَاضُ عَنْ عِبَادَةِ كُلِّ مَا سوى الله.
سورة الزمر (39) : الآيات 67 الى 70وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70)