اعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا ابْتُدِئَ مِنْ قَوْلِهِ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فُصِّلَتْ: 6 وَاحْتُجَّ عَلَيْهِ بقوله قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ فُصِّلَتْ: 9 وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْإِلَهَ الْمَوْصُوفَ بِهَذِهِ الْقُدْرَةِ الْقَاهِرَةِ كَيْفَ يَجُوزُ الْكُفْرُ بِهِ، وَكَيْفَ يَجُوزُ جَعْلُ هَذِهِ الْأَجْسَامِ الْخَسِيسَةِ شُرَكَاءَ لَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ؟ وَلَمَّا تَمَّمَ تِلْكَ الْحُجَّةَ قَالَ:
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ وَبَيَانُ ذَلِكَ لِأَنَّ وَظِيفَةَ الْحُجَّةِ قَدْ تَمَّتْ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، فَإِنْ بَقُوا مُصِرِّينَ عَلَى الْجَهْلِ لَمْ يَبْقَ حِينَئِذٍ عِلَاجٌ فِي حَقِّهِمْ إِلَّا إِنْزَالَ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ:
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ بِمَعْنَى إِنْ أَعْرَضُوا عَنْ قَبُولِ هَذِهِ الْحُجَّةِ الْقَاهِرَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَأَصَرُّوا عَلَى الْجَهْلِ وَالتَّقْلِيدِ فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ وَالْإِنْذَارُ هُوَ: التَّخْوِيفُ، قَالَ الْمُبَرِّدُ وَالصَّاعِقَةُ الثَّائِرَةُ الْمُهْلِكَةُ لِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ، وَقُرِئَ صَعْقَةً مِثْلَ صَعْقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَهِيَ الْمَرَّةُ مِنَ الصَّعْقِ.
ثُمَّ قَالَ: إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: الْمَعْنَى أَنَّ الرُّسُلَ الْمَبْعُوثِينَ إِلَيْهِمْ أَتَوْهُمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَاجْتَهَدُوا بِهِمْ وَأَتَوْا بِجَمِيعِ وُجُوهِ الْحِيَلِ فَلَمْ يَرَوْا مِنْهُمْ إِلَّا الْعُتُوَّ وَالْإِعْرَاضَ، كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الشَّيْطَانِ قَوْلَهُ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ الْأَعْرَافِ: 17 يَعْنِي لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ وَلَأَعْمَلَنَّ فِيهِمْ كُلَّ حِيلَةٍ، وَيَقُولُ الرَّجُلُ: اسْتَدَرْتُ بِفُلَانٍ مِنْ كُلِّ/ جَانِبٍ فَلَمْ تُؤَثِّرْ حِيلَتِي فِيهِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: الْمَعْنَى: أَنَّ الرُّسُلَ جَاءَتْهُمْ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمِنْ بَعْدِهِمْ، فَإِنْ قِيلَ: الرُّسُلُ الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ قَبْلِهِمْ وَمِنْ بَعْدِهِمْ، كَيْفَ يمكن وصفهم بأنهم جاءوهم؟ قلنا: قد جَاءَهُمْ هُودٌ وَصَالِحٌ دَاعِيَيْنِ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِمَا وَبِجَمِيعِ الرُّسُلِ، وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ فَكَأَنَّ جَمِيعَ الرُّسُلِ قَدْ جَاءُوهُمْ.
ثُمَّ قَالَ: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ يَعْنِي أَنَّ الرُّسُلَ الَّذِينَ جَاءُوهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَمَرُوهُمْ بِالتَّوْحِيدِ وَنَفْيِ الشِّرْكِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنَّ فِي قَوْلِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ بِمَعْنَى أَيْ أَوْ مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ أَصْلُهُ بِأَنَّهُ لَا تَعْبُدُوا أَيْ بِأَنَّ الشَّأْنَ وَالْحَدِيثَ قَوْلُنَا لَكُمْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ.
ثُمَّ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ قَالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً يَعْنِي أَنَّهُمْ كَذَّبُوا أُولَئِكَ الرسل، وقالوا الدليل على كونكم كَاذِبِينَ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ شَاءَ إِرْسَالَ الرِّسَالَةِ إِلَى الْبَشَرِ لَجَعَلَ رُسُلَهُ مِنْ زُمْرَةِ الْمَلَائِكَةِ، لِأَنَّ إِرْسَالَ الْمَلَائِكَةِ إِلَى الْخَلْقِ أَفْضَى إِلَى الْمَقْصُودِ مِنَ الْبَعْثَةِ وَالرِّسَالَةِ، وَلَمَّا ذَكَرُوا هَذِهِ الشبهة قالوا