أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَيَّضَ لَهُمْ قُرَنَاءَ فَقَدْ أَرَادَ مِنْهُمْ ذَلِكَ الْكُفْرَ، أَجَابَ الْجُبَّائِيُّ عَنْهُ بِأَنْ قَالَ لَوْ أَرَادَ الْمَعَاصِيَ لَكَانُوا بِفِعْلِهَا مُطِيعِينَ إِذِ الْفَاعِلُ لِمَا أَرَادَهُ مِنْهُ غَيْرُهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُطِيعًا لَهُ، وَبِأَنَّ قَوْلِهِ وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ الذَّارِيَاتِ: 56 يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ مِنْهُمْ إِلَّا الْعِبَادَةَ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُرِدْ مِنْهُمُ الْمَعَاصِيَ، وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ لِيُزَيِّنُوا لَهُمْ، وَإِنَّمَا قَالَ: فَزَيَّنُوا لَهُمْ فَهُوَ تَعَالَى قَيَّضَ الْقُرَنَاءَ لَهُمْ بِمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى/ أَخْرَجَ كُلَّ أَحَدٍ إِلَى آخَرَ مِنْ جِنْسِهِ، فَقَيَّضَ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ وَالْغَنِيَّ لِلْفَقِيرِ وَالْفَقِيرَ لِلْغَنِيِّ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ بَعْضَهُمْ يُزَيِّنُ الْمَعَاصِيَ لِلْبَعْضِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ اسْتِدْلَالِ أَصْحَابِنَا مَا ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا وَعَلِمَ قَطْعًا أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ يُفْضِي إِلَى أَثَرٍ، فَاعِلَ ذَلِكَ الْفِعْلِ يَكُونُ مُرِيدًا لِذَلِكَ الْأَثَرِ، فَهَهُنَا اللَّهُ تَعَالَى قَيَّضَ أُولَئِكَ الْقُرَنَاءَ لَهُمْ وَعَلِمَ أَنَّهُ مَتَى قَيَّضَ أُولَئِكَ الْقُرَنَاءَ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ يَقَعُونَ فِي ذَلِكَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْجُبَّائِيُّ لَا يَدْفَعُ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ وَلَوْ أَرَادَ اللَّهُ مِنْهُمُ الْمَعَاصِيَ لَكَانُوا بِفِعْلِهَا مُطِيعِينَ لِلَّهِ، قُلْنَا لَوْ كَانَ مَنْ فَعَلَ مَا أَرَادَهُ غَيْرُهُ مُطِيعًا لَهُ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُطِيعًا لِعِبَادِهِ إِذَا فَعَلَ مَا أَرَادُوهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَأَيْضًا فَهَذَا إِلْزَامٌ لَفْظِيٌّ لِأَنَّهُ يُقَالُ إِنْ أَرَدْتَ بِالطَّاعَةِ أَنَّهُ فَعَلَ مَا أَرَادَ فَهَذَا إِلْزَامٌ لِلشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ أَرَدْتَ غَيْرَهُ فَلَا بُدَّ، مِنْ بَيَانِهِ حَتَّى يَنْظُرَ فِيهِ أَنَّهُ هَلْ يَصِحُّ أَمْ لا.
المسألة الثالثة: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَذَكَرَ الزَّجَّاجُ فِيهِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: زَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ أَنَّهُ لَا بَعْثَ وَلَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، فَزَيَّنُوا أَنَّ الدُّنْيَا قَدِيمَةٌ، وَأَنَّهُ لَا فَاعِلَ وَلَا صَانِعَ إِلَّا الطَّبَائِعُ وَالْأَفْلَاكُ الثَّانِي: زَيَّنُوا لَهُمْ أَعْمَالَهُمُ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا وَيُشَاهِدُونَهَا وَمَا خلفهم وما يزعمون أنهم يعملونه، وَعَبَّرَ ابْنُ زَيْدٍ عَنْهُ، فَقَالَ زَيَّنُوا لَهُمْ مَا مَضَى مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْخَبِيثَةِ وَمَا بَقِيَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْخَسِيسَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ فَقَوْلُهُ فِي أُمَمٍ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي عَلَيْهِمْ، وَالتَّقْدِيرُ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ حَالَ كَوْنِهِمْ كَائِنِينَ فِي جُمْلَةِ أُمَمٍ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا أَيْضًا بِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فَلَوْ لَمْ يَكُونُوا كُفَّارًا لا نقلب هَذَا الْقَوْلُ الْحَقُّ بَاطِلًا وَهَذَا الْعِلْمُ جَهْلًا، وَهَذَا الْخَبَرُ الصِّدْقُ كَذِبًا، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ ومستلزم المحال، فَثَبَتَ أَنَّ صُدُورَ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ، وَعَدَمَ صُدُورِ الْكُفْرِ عَنْهُمْ مُحَالٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ ابْتُدِئَ مِنْ قَوْلِهِ وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ إِلَى قَوْلِهِ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ فُصِّلَتْ: 5 فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ تِلْكَ الشُّبْهَةِ بِوُجُوهٍ مِنَ الْأَجْوِبَةِ، وَاتَّصَلَ الْكَلَامُ بَعْضُهُ بِالْبَعْضِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ، ثُمَّ إِنَّهُ حَكَى عَنْهُمْ شُبْهَةً أُخْرَى فَقَالَ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قُرِئَ وَالْغَوْا فِيهِ بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَضَمِّهَا يُقَالُ لَغَى يَلْغَى وَيَلْغُو وَاللَّغْوُ السَّاقِطُ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي لَا طَائِلَ تَحْتَهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ عَلِمُوا أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامٌ كَامِلٌ فِي الْمَعْنَى، وَفِي اللَّفْظِ وَأَنَّ كُلَّ مَنْ سَمِعَهُ وَقَفَ عَلَى جَزَالَةِ أَلْفَاظِهِ، وَأَحَاطَ عَقْلُهُ بِمَعَانِيهِ، وَقَضَى عَقْلُهُ بِأَنَّهُ كَلَامٌ حَقٌّ وَاجِبُ الْقَبُولِ، فَدَبَّرُوا تَدْبِيرًا فِي مَنْعِ النَّاسِ عَنِ اسْتِمَاعِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ إِذَا قُرِئَ وَتَشَاغَلُوا عِنْدَ قِرَاءَتِهِ بِرَفْعِ الْأَصْوَاتِ بِالْخُرَافَاتِ وَالْأَشْعَارِ الْفَاسِدَةِ وَالْكَلِمَاتِ الْبَاطِلَةِ، حَتَّى تُخَلِّطُوا عَلَى الْقَارِئِ/ وَتُشَوِّشُوا عَلَيْهِ وَتَغْلِبُوا عَلَى