يَجِبُ أَنْ تَكُونَ أَحْسَنَ الْأَقْوَالِ، وَثَبَتَ أَنَّ الْأَذَانَ لَيْسَ أَحْسَنَ الْأَقْوَالِ، لِأَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى دِينِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالدَّلَائِلِ الْيَقِينِيَّةِ أَحْسَنُ مِنَ الْأَذَانِ، يَنْتُجُ مِنَ الشَّكْلِ الثَّانِي أَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَ هُوَ الْأَذَانَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَنَّ الْأَوْلَى أن يقول الرجل أنا المسلم أَوِ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ أَنَا مُسْلِمٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَالْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ احْتَجُّوا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّ التَّقْدِيرَ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ قَالَ إِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَحَكَمَ بِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ، وَلَوْ كَانَ قَوْلُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ مُعْتَبَرًا فِي كَوْنِهِ أَحْسَنَ الْأَقْوَالِ لَبَطَلَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحْسَنَ الْأَقْوَالِ قَوْلُ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ خِصَالٍ ثَلَاثَةٍ أَوَّلُهَا: الدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ وَثَانِيهَا: الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَمَّا الدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ فَقَدْ شَرَحْنَاهَا وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ بِإِقَامَةِ الدَّلَائِلِ الْيَقِينِيَّةِ وَالْبَرَاهِينِ الْقَطْعِيَّةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ وَعَمِلَ صالِحاً فَاعْلَمْ أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَمَلَ الْقُلُوبِ وَهُوَ الْمَعْرِفَةُ، أَوْ عَمَلَ الْجَوَارِحِ وَهُوَ سَائِرُ الطَّاعَاتِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ أَنْ يَنْضَمَّ إِلَى عَمَلِ الْقَلْبِ وَعَمَلِ الْجَوَارِحِ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، فَيَكُونُ هَذَا الرَّجُلُ مَوْصُوفًا بِخِصَالٍ أَرْبَعَةٍ أَحَدُهَا: الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ وَالثَّانِي: الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ بِالْجَوَارِحِ وَالثَّالِثُ:
الِاعْتِقَادُ الْحَقُّ بِالْقَلْبِ وَالرَّابِعُ: الِاشْتِغَالُ بِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى دِينِ اللَّهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَوْصُوفَ بِهَذِهِ الْخِصَالِ الْأَرْبَعَةِ أَشْرَفُ النَّاسِ وَأَفْضَلُهُمْ، وَكَمَالُ الدَّرَجَةِ فِي هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الْأَرْبَعَةِ لَيْسَ إِلَّا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْكَلَامَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ ابْتُدِئْ مِنْ أَنَّ اللَّهَ حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ فُصِّلَتْ: 5 فَأَظْهَرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمِ الْإِصْرَارَ الشَّدِيدَ عَلَى أَدْيَانِهِمُ الْقَدِيمَةِ وَعَدَمَ التَّأَثُّرِ بِدَلَائِلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَطْنَبَ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ وَذَكَرَ الْوُجُوهَ الْكَثِيرَةَ وَأَرْدَفَهَا بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، ثُمَّ حَكَى عَنْهُمْ شُبْهَةً أُخْرَى وَهِيَ قولهم لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ فُصِّلَتْ: 26 وَأَجَابَ عَنْهَا أَيْضًا بِالْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ، ثُمَّ إنه تعالى يعد الْإِطْنَابِ فِي الْجَوَابِ عَنْ تِلْكَ الشُّبُهَاتِ رَغَّبَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنْ لَا يَتْرُكَ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ فَابْتَدَأَ أَوَّلًا بِأَنْ قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلَهُمُ الثَّوَابُ الْعَظِيمُ ثُمَّ تَرَقَّى مِنْ تِلْكَ الدَّرَجَةِ إِلَى دَرَجَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ مِنْ أَعْظَمِ الدَّرَجَاتِ، فَصَارَ الْكَلَامُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى/ هَذَا الْمَوْضِعِ وَاقِعًا عَلَى أَحْسَنِ وُجُوهِ التَّرْتِيبِ، ثُمَّ كَأَنَّ سَائِلًا سَأَلَ فَقَالَ إِنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ وَإِنْ كَانَتْ طَاعَةً عَظِيمَةً، إِلَّا أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى سَفَاهَةِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ شَدِيدٌ لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ، فَعِنْدَ هَذَا ذَكَرَ اللَّهُ مَا يَصْلُحُ لِأَنْ يَكُونَ دَافِعًا لِهَذَا الْإِشْكَالِ فَقَالَ: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ وَالْمُرَادُ بِالْحَسَنَةِ دَعْوَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ، وَالصَّبْرِ عَلَى جَهَالَةِ الْكُفَّارِ، وَتَرْكِ الِانْتِقَامِ، وَتَرْكِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِمْ، وَالْمُرَادُ بِالسَّيِّئَةِ مَا أَظْهَرُوهُ مِنَ الْجَلَافَةِ فِي قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَمَا ذَكَرُوهُ فِي قَوْلِهِمْ لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ يَا مُحَمَّدُ فِعْلُكَ حَسَنَةٌ وَفِعْلُهُمْ سَيِّئَةٌ، وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ، بِمَعْنَى أَنَّكَ إِذَا أَتَيْتَ بِهَذِهِ الْحَسَنَةِ تَكُونُ مُسْتَوْجِبًا لِلتَّعْظِيمِ فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَهُمْ بِالضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إِقْدَامُهُمْ عَلَى تِلْكَ السَّيِّئَةِ مَانِعًا لَكَ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِهَذِهِ الْحَسَنَةِ.