النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَهُوَ قَوْلُهُ:
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ، فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ الْأَعْرَافِ: 161، 162 وَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا عَلَى أَنَّ مَا وَرَدَ بِهِ التَّوْقِيفُ مِنَ الْأَذْكَارِ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ تَغْيِيرُهَا وَلَا تَبْدِيلُهَا بِغَيْرِهَا، وَرُبَّمَا احْتَجَّ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَحْرِيمُ الصَّلَاةِ بِلَفْظِ التَّعْظِيمِ وَالتَّسْبِيحِ وَلَا تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِالْفَارِسِيَّةِ وَأَجَابَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ بِأَنَّهُمْ إِنَّمَا اسْتَحَقُّوا الذَّمَّ لِتَبْدِيلِهِمُ الْقَوْلَ إِلَى قَوْلٍ آخَرَ يُضَادُّ مَعْنَاهُ مَعْنَى الْأَوَّلِ، فَلَا جَرَمَ اسْتَوْجَبُوا الذَّمَّ، فَأَمَّا مَنْ غَيَّرَ اللَّفْظَ مَعَ بَقَاءِ الْمَعْنَى فَلَيْسَ كَذَلِكَ وَالْجَوَابُ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ بَدَّلَ قَوْلًا بِقَوْلٍ آخَرَ سَوَاءٌ اتَّفَقَ الْقَوْلَانِ فِي الْمَعْنَى أَوْ لَمْ يَتَّفِقَا، وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٍ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَإِذْ قُلْنَا وَقَالَ فِي الْأَعْرَافِ: وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ الْجَوَابُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَرَّحَ فِي أَوَّلِ الْقُرْآنِ بِأَنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى إِزَالَةً لِلْإِبْهَامِ وَلِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ الْبَقَرَةِ: 40 ثُمَّ أَخَذَ يُعَدِّدُ نِعَمَهُ نِعْمَةً نِعْمَةً فَاللَّائِقُ بِهَذَا الْمَقَامِ أَنْ يَقُولَ: وَإِذْ قُلْنَا أَمَّا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فَلَا يَبْقَى فِي قَوْلِهِ تعالى: وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ إِبْهَامٌ بَعْدَ تَقْدِيمِ التَّصْرِيحِ بِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ قَالَ فِي الْبَقَرَةِ: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا وفي الأعراف: اسْكُنُوا؟ الْجَوَابُ: الدُّخُولُ مُقَدَّمٌ عَلَى السُّكُونِ وَلَا بُدَّ مِنْهُمَا فَلَا جَرَمَ ذَكَرَ الدُّخُولَ فِي السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَالسُّكُونَ فِي السُّورَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ قَالَ فِي الْبَقَرَةِ: فَكُلُوا بِالْفَاءِ وَفِي الأعراف: وَكُلُوا بِالْوَاوِ؟ وَالْجَوَابُ هَاهُنَا هُوَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَكُلا مِنْها رَغَداً وفي الأعراف: فَكُلا.
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: لِمَ قَالَ فِي الْبَقَرَةِ: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَفِي الْأَعْرَافِ: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ، الْجَوَابُ: الْخَطَايَا جَمْعُ الْكَثْرَةِ وَالْخَطِيئَاتُ جَمْعُ السَّلَامَةِ فَهُوَ لِلْقِلَّةِ، وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَمَّا أَضَافَ ذَلِكَ الْقَوْلَ إِلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ لَا جَرَمَ قَرَنَ بِهِ ما يليق جوده وَكَرَمِهِ وَهُوَ غُفْرَانُ الذُّنُوبِ الْكَثِيرَةِ، فَذَكَرَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ الدَّالِّ عَلَى الْكَثْرَةِ، وَفِي الْأَعْرَافِ/ لَمَّا لَمْ يُضِفْ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ بَلْ قَالَ: وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ لَا جَرَمَ ذَكَرَ ذَلِكَ بِجَمْعِ الْقِلَّةِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْفَاعِلَ ذَكَرَ مَا يَلِيقُ بكرمه من غفران الخطايا الكثيرة ة وَفِي الْأَعْرَافِ لَمَّا لَمْ يُسَمَّ الْفَاعِلُ لَمْ يَذْكُرِ اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَى الْكَثْرَةِ.
السُّؤَالُ الْخَامِسُ: لِمَ ذَكَرَ قَوْلَهُ: رَغَداً فِي الْبَقَرَةِ وَحَذَفَهُ فِي الْأَعْرَافِ؟ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ كَالْجَوَابِ فِي الْخَطَايَا وَالْخَطِيئَاتِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى نَفْسِهِ لَا جَرَمَ ذَكَرَ مَعَهُ الْإِنْعَامَ الْأَعْظَمَ وَهُوَ أَنْ يَأْكُلُوا رَغَدًا، وَفِي الْأَعْرَافِ لَمَّا لَمْ يُسْنِدِ الْفِعْلَ إِلَى نَفْسِهِ لَمْ يَذْكُرِ الْإِنْعَامَ الْأَعْظَمَ فِيهِ.
السُّؤَالُ السَّادِسُ: لِمَ ذَكَرَ فِي الْبَقَرَةِ: وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ وَفِي الْأَعْرَافِ قَدَّمَ الْمُؤَخَّرَ؟
الْجَوَابُ: الْوَاوُ للجمع المطلق وأيضاً فالمخاطبون بقوله: ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ، يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ بَعْضَهُمْ كَانُوا مُذْنِبِينَ وَالْبَعْضَ الْآخَرَ مَا كَانُوا مُذْنِبِينَ، فَالْمُذْنِبُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ اشْتِغَالُهُ بِحَطِّ الذُّنُوبِ