وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ شَدِيدٌ فَاشْتِغَالُ كُلِّ وَاحِدٍ بِنَفْسِهِ يُذْهِلُهُ عَنْ حَالِ الْآخَرِ، فَلَا جَرَمَ الشَّرِكَةُ لَا تُفِيدُ الْخِفَّةَ الثَّانِي: أَنَّ قَوْمًا إِذَا اشْتَرَكُوا فِي الْعَذَابِ أَعَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ صَاحِبَهُ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ فَيَحْصُلُ بِسَبَبِهِ بَعْضُ التَّخْفِيفِ وَهَذَا الْمَعْنَى مُتَعَذِّرٌ فِي الْقِيَامَةِ الثَّالِثُ: أَنَّ جُلُوسَ الْإِنْسَانِ مَعَ قَرِينِهِ يُفِيدُهُ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنَ السَّلْوَةِ. فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الشَّيْطَانَ وَإِنْ كَانَ قَرِينًا إِلَّا أَنَّ مُجَالَسَتَهُ فِي الْقِيَامَةِ لَا تُوجِبُ السَّلْوَةَ وَخِفَّةَ الْعُقُوبَةِ وَفِي كِتَابِ ابْنِ مُجَاهِدٍ عَنِ ابن عامر قرأ إذا ظَلَمْتُمْ إِنَّكُمْ بِكَسْرِ الْأَلِفِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ أَنَّكُمْ بفتح الألف والله أعلم.
سورة الزخرف (43) : الآيات 40 الى 45أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44)
وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَهُمْ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِالْعَشَى وَصَفَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالصَّمَمِ وَالْعَمَى/ وَمَا أَحْسَنَ هَذَا التَّرْتِيبَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي أَوَّلِ اشْتِغَالِهِ بِطَلَبِ الدُّنْيَا يَكُونُ كَمَنْ حَصَلَ بِعَيْنِهِ رَمَدٌ ضَعِيفٌ، ثُمَّ كُلَّمَا كَانَ اشْتِغَالُهُ بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ أَكْثَرَ كَانَ مَيْلُهُ إِلَى الْجُسْمَانِيَّاتِ أَشَدَّ وَإِعْرَاضُهُ عَنِ الرُّوحَانِيَّاتِ أَكْمَلَ، لِمَا ثَبَتَ فِي عُلُومِ الْعَقْلِ أَنَّ كَثْرَةَ الْأَفْعَالِ تُوجِبُ حُصُولَ الْمَلَكَاتِ الرَّاسِخَةِ فَيَنْتَقِلُ الْإِنْسَانُ مِنَ الرَّمَدِ إِلَى أَنْ يَصِيرَ أَعْشَى فَإِذَا وَاظَبَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ أَيَّامًا أُخْرَى انْتَقَلَ مِنْ كَوْنِهِ أَعْشَى إِلَى كَوْنِهِ أَعْمَى، فَهَذَا تَرْتِيبٌ حَسَنٌ مُوَافِقٌ لِمَا ثَبَتَ بِالْبَرَاهِينِ الْيَقِينِيَّةِ،
رُوِي أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْتَهِدُ فِي دُعَاءِ قَوْمِهِ وَهُمْ لَا يَزِيدُونَ إِلَّا تَصْمِيمًا عَلَى الْكُفْرِ وَتَمَادِيًا فِي الْغَيِّ،
فَقَالَ تَعَالَى: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ يَعْنِي أَنَّهُمْ بَلَغُوا فِي النَّفْرَةِ عَنْكَ وَعَنْ دِينِكَ إِلَى حَيْثُ إِذَا أَسْمَعْتَهُمُ الْقُرْآنَ كَانُوا كَالْأَصَمِّ، وَإِذَا أَرَيْتَهُمُ الْمُعْجِزَاتِ كَانُوا كَالْأَعْمَى، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ صَمَمَهُمْ وَعَمَاهُمْ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ كَوْنِهِمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ.
وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ دَعْوَتَهُ لَا تُؤَثِّرُ فِي قُلُوبِهِمْ قَالَ: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ يُرِيدُ حُصُولَ الْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِ النِّقْمَةِ بِهِمْ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ بَعْدَكَ أَوْ نُرِيَنَّكَ فِي حَيَاتِكَ مَا وَعَدْنَاهُمْ مِنَ الذُّلِّ وَالْقَتْلِ فَإِنَّا مُقْتَدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يُفِيدُ كَمَالَ التَّسْلِيَةِ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا تُؤَثِّرُ فِيهِمْ دَعْوَتُهُ وَالْيَأْسُ إِحْدَى الرَّاحَتَيْنِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَنْتَقِمَ لِأَجْلِهِ متهم إِمَّا حَالَ حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَذَلِكَ أَيْضًا يُوجِبُ التَّسْلِيَةَ، فَبَعْدَ هَذَا أَمَرَهُ أَنْ يَسْتَمْسِكَ بِمَا أَمَرَهُ تَعَالَى، فَقَالَ: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ بِأَنْ تَعْتَقِدَ أَنَّهُ حَقٌّ وَبِأَنْ تَعْمَلَ بِمُوجِبِهِ فَإِنَّهُ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي لَا يَمِيلُ عَنْهُ إِلَّا ضَالٌّ فِي الدِّينِ.
وَلَمَّا بَيَّنَ تَأْثِيرَ التَّمَسُّكِ بِهَذَا الدِّينِ فِي مَنَافِعِ الدِّينِ بَيَّنَ أَيْضًا تَأْثِيرَهُ فِي مَنَافِعِ الدُّنْيَا فَقَالَ: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ أَيْ إِنَّهُ يُوجِبُ الشَّرَفَ الْعَظِيمَ لَكَ وَلِقَوْمِكَ حَيْثُ يُقَالُ إِنَّ هَذَا الْكِتَابَ الْعَظِيمَ أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ قَوْمِ هَؤُلَاءِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَظِيمَ الرَّغْبَةِ فِي الثَّنَاءِ الْحَسَنِ والذكر