مُحْدَثٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِرَارًا أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الدَّلَائِلِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّيْءَ الْمُرَكَّبَ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُتَعَاقِبَةِ وَالْأَصْوَاتِ الْمُتَوَالِيَةِ مُحْدَثٌ، وَالْعِلْمُ بِذَلِكَ ضَرُورِيٌّ بَدِيهِيٌّ لَا يُنَازِعُ فِيهِ إِلَّا مَنْ كَانَ عَدِيمَ الْعَقْلِ وَكَانَ غَيْرَ عَارِفٍ بِمَعْنَى الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يُنَازِعُ فِي صِحَّةِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ، إِنَّمَا الَّذِي ثَبَتَ قِدَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ سِوَى مَا تَرَكَّبَ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: يَجُوزُ أَنْ يكون المراد بالكتاب هاهنا الْكُتُبَ الْمُتَقَدِّمَةَ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ الْحَدِيدِ: 25 وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ، كَمَا قَالَ: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ الرَّعْدِ: 39 وَقَالَ: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا الزُّخْرُفِ: 4 وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْقُرْآنَ، وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ فَقَدْ أَقْسَمَ بِالْقُرْآنِ عَلَى أَنَّهُ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ تَعْظِيمِ الْقُرْآنِ، فَقَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ إِذَا أَرَادَ تَعْظِيمَ رَجُلٍ لَهُ حَاجَةٌ إِلَيْهِ: أَسْتَشْفِعُ بِكَ إِلَيْكَ وَأُقْسِمُ بِحَقِّكَ عَلَيْكَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْمُبِينِ هُوَ الْمُشْتَمِلُ عَلَى بَيَانِ مَا بِالنَّاسِ حَاجَةً إِلَيْهِ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، فَوَصَفَهُ بِكَوْنِهِ مُبِينًا، وَإِنْ كَانَتْ حَقِيقَةُ الْإِبَانَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، لِأَجْلِ أَنَّ الْإِبَانَةَ حَصَلَتْ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ النَّمْلِ: 76 وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ يُوسُفَ: 3 وَقَالَ:
أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ الرُّومِ: 35 فَوَصَفَهُ بِالتَّكَلُّمِ إِذْ كَانَ غَايَةً فِي الْإِبَانَةِ، فَكَأَنَّهُ ذُو لِسَانٍ يَنْطِقُ، وَالْمَعْنَى فِيهِ الْمُبَالَغَةُ فِي وَصْفِهِ بِهَذَا الْمَعْنَى.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ الْمُبَارَكَةِ، فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: إِنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَطَائِفَةٌ آخَرُونَ: إِنَّهَا لَيْلَةُ الْبَرَاءَةِ، وَهِيَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ أَمَّا الْأَوَّلُونَ فَقَدِ احْتَجُّوا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِوُجُوهٍ أَوَّلُهَا:
أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ القدر: 1 وهاهنا قَالَ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ اللَّيْلَةُ الْمُبَارَكَةُ هِيَ تِلْكَ الْمُسَمَّاةُ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّنَاقُضُ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ الْبَقَرَةِ: 185 فَبَيَّنَ أَنَّ إِنْزَالَ الْقُرْآنِ إنما وقع في شهر رمضان، وقال هاهنا إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ فَوَجَبَ أَنْ تكون هذه الليلة وَاقِعَةً فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَكُلُّ مَنْ قَالَ إِنَّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ الْمُبَارَكَةَ وَاقِعَةٌ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، قَالَ إِنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، فَثَبَتَ أَنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي صِفَةِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ القدر: 4، 5 وقال أيضا هاهنا فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ وَهَذَا مُنَاسِبٌ لقوله تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها وهاهنا قَالَ: أَمْراً مِنْ عِنْدِنا وَقَالَ فِي تِلْكَ الآية بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ وقال هاهنا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَقَالَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ سَلامٌ هِيَ وَإِذَا تَقَارَبَتِ الْأَوْصَافُ/ وَجَبَ الْقَوْلُ بِأَنَّ إِحْدَى اللَّيْلَتَيْنِ هِيَ الْأُخْرَى وَرَابِعُهَا: نَقَلَ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ فِي «تَفْسِيرِهِ» : عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ:
نَزَلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَالتَّوْرَاةُ لِسِتِّ لَيَالٍ مِنْهُ، وَالزَّبُورُ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْهُ، وَالْإِنْجِيلُ لِثَمَانِ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْهُ، وَالْقُرْآنُ لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَاللَّيْلَةُ الْمُبَارَكَةُ هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَخَامِسُهَا: أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِنَّمَا سُمِّيَتْ بِهَذَا الِاسْمِ، لِأَنَّ قَدْرَهَا وَشَرَفَهَا عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ قَدْرُهَا وَشَرَفُهَا لِسَبَبِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، لِأَنَّ الزَّمَانَ شَيْءٌ وَاحِدٌ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ، فَيَمْتَنِعُ كَوْنُ بَعْضِهِ أَشْرَفَ مِنْ بَعْضٍ لِذَاتِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ شَرَفَهُ وَقَدْرَهُ بِسَبَبِ أَنَّهُ حَصَلَ فِيهِ أُمُورٌ شَرِيفَةٌ عَالِيَةٌ لَهَا قَدْرٌ عَظِيمٌ وَمَرْتَبَةٌ رَفِيعَةٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ