الطَّرِيقَ الَّذِي أَظْهَرَهُ اللَّهُ فِيمَا بَيْنَ الْبَحْرِ أَنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ، يَعْنِي اتْرُكِ الطَّرِيقَ كَمَا كَانَ يَدْخُلُوا فَيَغْرَقُوا، وَإِنَّمَا أَخْبَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ حَتَّى يَبْقَى فَارِغَ الْقَلْبِ عَنْ شَرِّهِمْ وَإِيذَائِهِمْ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَغْرَقَهُمْ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ غَرَقِهِمْ هَذَا الْكَلَامَ، وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ تَرَكُوا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الْخَمْسَةَ، وَهِيَ الْجَنَّاتُ وَالْعُيُونُ وَالزُّرُوعُ وَالْمَقَامُ الْكَرِيمُ وَالْمُرَادُ بِالْمَقَامِ الْكَرِيمِ مَا كَانَ لَهُمْ مِنَ الْمَجَالِسِ وَالْمَنَازِلِ الْحَسَنَةِ، وَقِيلَ الْمَنَابِرُ الَّتِي كَانُوا يَمْدَحُونَ فِرْعَوْنَ عَلَيْهَا وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ قَالَ عُلَمَاءُ اللُّغَةِ نَعْمَةُ الْعَيْشِ، بِفَتْحِ النُّونِ حُسْنُهُ وَنَضَارَتُهُ، وَنِعْمَةُ اللَّهِ إِحْسَانُهُ وَعَطَاؤُهُ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : النَّعْمَةُ بِالْفَتْحِ مِنَ التَّنَعُّمِ وَبِالْكَسْرِ مِنَ الْإِنْعَامِ، وَقُرِئَ فَاكِهِينَ وَفَكِهِينَ كَذَلِكَ الْكَافُ مَنْصُوبَةٌ عَلَى مَعْنَى مِثْلِ ذَلِكَ الْإِخْرَاجِ أَخْرَجْنَاهُمْ مِنْهَا وَأَوْرَثْنَاهَا أَوْ فِي مَوْضِعِ الرَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الْأَمْرَ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ لَيْسُوا مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ قَرَابَةٍ وَلَا دِينٍ وَلَا وَلَاءٍ، وَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ كَانُوا مُسْتَعْبَدِينَ فِي أَيْدِيهِمْ فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ عَلَى أَيْدِيهِمْ وَأَوْرَثَهُمْ مُلْكَهُمْ وَدِيَارَهُمْ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ:
قَالَ الْوَاحِدِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» :
رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا وَلَهُ فِي السَّمَاءِ بَابَانِ بَابٌ يَخْرُجُ مِنْهُ رِزْقُهُ وَبَابٌ يَدْخُلُ فِيهِ عَمَلُهُ، فَإِذَا مَاتَ فَقَدَاهُ وَبَكَيَا عَلَيْهِ» وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ،
قَالَ وَذَلِكَ/ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْمَلُونَ عَلَى الْأَرْضِ عَمَلًا صَالِحًا فَتَبْكِيَ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَصْعَدْ لَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ كَلَامٌ طَيِّبٌ وَلَا عَمَلٌ صَالِحٌ فَتَبْكِيَ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: التَّقْدِيرُ: فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمْ أَهْلُ السَّمَاءِ وَأَهْلُ الْأَرْضِ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَالْمَعْنَى مَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ وَلَا الْمُؤْمِنُونَ، بَلْ كَانُوا بِهَلَاكِهِمْ مَسْرُورِينَ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ عَادَةَ النَّاسِ جَرَتْ بِأَنْ يَقُولُوا فِي هَلَاكِ الرَّجُلِ الْعَظِيمِ الشَّأْنِ: إِنَّهُ أَظْلَمَتْ لَهُ الدُّنْيَا، وَكَسَفَتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لِأَجْلِهِ وَبَكَتِ الرِّيحُ وَالسَّمَاءُ وَالْأَرْضُ، وَيُرِيدُونَ الْمُبَالَغَةَ فِي تَعْظِيمِ تِلْكَ الْمُصِيبَةِ لَا نَفْسَ هَذَا الْكَذِبِ.
وَنَقَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ مَاتَ فِي غُرْبَةٍ غَابَتْ فِيهَا بَوَاكِيهِ إِلَّا بَكَتْ عَلَيْهِ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ» .
وَقَالَ جَرِيرٌ:
الشَّمْسُ طَالِعَةٌ لَيْسَتْ بِكَاسِفَةٍ
... تُبْكِي عَلَيْكَ نُجُومَ اللَّيْلِ وَالْقَمَرَا
وَفِيهِ مَا يُشْبِهُ السُّخْرِيَةَ بِهِمْ يَعْنِي أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَعْظِمُونَ أَنْفُسَهُمْ، وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ لَوْ مَاتُوا لَبَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ، فَمَا كَانُوا فِي هَذَا الْحَدِّ، بَلْ كَانُوا دُونَ ذَلِكَ، وَهَذَا إِنَّمَا يُذْكَرُ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ.
ثُمَّ قَالَ: وَما كانُوا مُنْظَرِينَ أَيْ لَمَّا جَاءَ وَقْتُ هَلَاكِهِمْ لَمْ يُنْظَرُوا إِلَى وَقْتٍ آخَرَ لِتَوْبَةٍ وَتَدَارُكٍ وتقصير.
سورة الدخان (44) : الآيات 30 الى 39وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34)
إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39)