ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ وَالْمَعْنَى أَنَّ قَبْلَ النَّظَرِ وَمَعْرِفَةِ الدَّلِيلِ الِاحْتِمَالَاتُ بِأَسْرِهَا قَائِمَةٌ، فَالَّذِي قَالُوهُ يُحْتَمَلُ وَضِدُّهُ أَيْضًا يُحْتَمَلُ، وَذَلِكَ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ حَقًّا، وَأَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ بِوُجُودِ الْإِلَهِ الْحَكِيمِ حَقًّا، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوا شُبْهَةً ضَعِيفَةً وَلَا قَوِيَّةً فِي أَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ الثَّانِيَ بَاطِلٌ، وَلَكِنَّهُ خَطَرَ بِبَالِهِمْ ذَلِكَ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ فَجَزَمُوا بِهِ وَأَصَرُّوا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ وَلَا بَيِّنَةٍ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ عِلْمٌ وَلَا جَزْمٌ وَلَا يَقِينٌ فِي صِحَّةِ الْقَوْلِ الَّذِي اخْتَارُوهُ بِسَبَبِ الظَّنِّ وَالْحُسْبَانِ وَمَيْلِ الْقَلْبِ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مُوجِبٍ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ وَبَيِّنَةٍ قَوْلٌ بَاطِلٌ فَاسِدٌ، وَأَنَّ مُتَابَعَةَ الظَّنِّ وَالْحُسْبَانِ مُنْكَرٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ مَا كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قرئ حجتهم بالنصب وَالرَّفْعُ عَلَى تَقْدِيمِ خَبَرِ كَانَ وَتَأْخِيرِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: سَمَّى قَوْلَهُمْ حُجَّةً لِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ فِي زَعْمِهِمْ حُجَّةٌ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ من كان حجتهم هذا فليس لهم الْبَتَّةَ حُجَّةٌ كَقَوْلِهِ:
تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعٌ
أَيْ لَيْسَ بَيْنَهُمْ تَحِيَّةٌ لِمُنَافَاةِ الضَّرْبِ لِلتَّحِيَّةِ الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ ذَكَرُوهَا فِي مَعْرِضِ الِاحْتِجَاجِ بِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ حُجَّتَهُمْ عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ أَنْ قَالُوا لَوْ صَحَّ ذَلِكَ فَائْتُوا بِآبَائِنَا الَّذِينَ مَاتُوا لِيَشْهَدُوا لَنَا بِصِحَّةِ الْبَعْثِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ ضَعِيفَةٌ جِدًّا، لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا لَا يَحْصُلُ فِي الْحَالِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُمْتَنِعَ الْحُصُولِ، فَإِنَّ حُصُولَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا كَانَ مَعْدُومًا مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي حَصَلْنَا فِيهِ، وَلَوْ كَانَ عَدَمُ الْحُصُولِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ الْحُصُولِ لَكَانَ عَدَمُ حُصُولِنَا كَذَلِكَ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ فَإِنْ قِيلَ هَذَا الْكَلَامُ مَذْكُورٌ لِأَجْلِ جَوَابِ مَنْ يَقُولُ مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ فَهَذَا الْقَائِلُ كَانَ مُنْكِرًا لِوُجُودِ الْإِلَهِ وَلِوُجُودِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ إِبْطَالُ كَلَامِهِ بِقَوْلِهِ قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ وَهَلْ هَذَا إِلَّا إِثْبَاتٌ لِلشَّيْءِ بِنَفْسِهِ وَهُوَ بَاطِلٌ، قُلْنَا إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الِاسْتِدْلَالَ بِحُدُوثِ الْحَيَوَانِ وَالْإِنْسَانِ عَلَى وُجُودِ الْفَاعِلِ الْحَكِيمِ فِي الْقُرْآنِ مِرَارًا وَأَطْوَارًا. فقوله ها هنا قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى تِلْكَ الدَّلَائِلِ الَّتِي بَيَّنَهَا وَأَوْضَحَهَا مِرَارًا، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ/ إِثْبَاتَ الْإِلَهِ بِقَوْلِ الْإِلَهِ، بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى مَا هُوَ الدَّلِيلُ الْحَقُّ الْقَاطِعُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.
وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْإِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَثَبَتَ أَنَّ الْإِعَادَةَ مِثْلُ الْإِحْيَاءِ الْأَوَّلِ، وَثَبَتَ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الشَّيْءِ قَادِرٌ عَلَى مِثْلِهِ، ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى الْإِعَادَةِ، وَثَبَتَ أَنَّ الْإِعَادَةَ مُمْكِنَةٌ فِي نَفْسِهَا، وَثَبَتَ أَنَّ الْقَادِرَ الْحَكِيمَ أَخْبَرَ عَنْ وَقْتِ وُقُوعِهَا فَوَجَبَ الْقَطْعُ بكونها حقة.