أَنَّهَا هِيَ الَّتِي لَمْ تَلِدْ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ مِنِ اسْمِ الْبِكْرِ مِنَ الْإِنَاثِ فِي بَنِي آدَمَ مَا لَمْ يَنْزُ عَلَيْهَا الْفَحْلُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
الْعَوَانُ الَّتِي وَلَدَتْ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ. وَحَرْبٌ عَوَانٌ: إِذَا كَانَتْ حَرْبًا قَدْ قُوتِلَ فِيهَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَحَاجَةٌ عَوَانٌ: إِذَا كَانَتْ قَدْ قُضِيَتْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ.
الْبَحْثُ الرَّابِعُ: احْتَجَّ الْعُلَمَاءُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ عَلَى جَوَازٍ الِاجْتِهَادِ وَاسْتِعْمَالِ غَالِبِ الظَّنِّ فِي الْأَحْكَامِ إِذْ لَا يُعْلَمُ أَنَّهَا بَيْنَ الْفَارِضِ وَالْبِكْرِ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَهَاهُنَا سؤالان:
الأول: لفظة «بين» تقتضي شيئين فصاعداًفمن أَيْنَ جَازَ دُخُولُهُ عَلَى ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى شَيْئَيْنِ حَيْثُ وَقَعَ مُشَارًا بِهِ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْفَارِضِ وَالْبِكْرِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ جَازَ أَنْ يُشَارَ بِلَفْظَةِ: (ذَلِكَ) إِلَى مُؤَنَّثَيْنِ مَعَ أَنَّهُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى وَاحِدٍ مُذَكَّرٍ؟ الْجَوَابُ:
جَازَ ذِكْرُ ذَلِكَ عَلَى تَأْوِيلِ مَا ذُكِرَ أَوْ مَا تَقَدَّمَ لِلِاخْتِصَارِ فِي الْكَلَامِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: الْأَوَّلُ: فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ بِهِ مِنْ قَوْلِكَ: أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فَافْعَلُوا أَمْرَكُمْ بِمَعْنَى مَأْمُورِكُمْ تَسْمِيَةً لِلْمَفْعُولِ بِالْمَصْدَرِ كَضَرْبِ الْأَمِيرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ مِنْ هَذَا الْجَوَابِ كَوْنُ الْبَقَرَةِ فِي أَكْمَلِ أَحْوَالِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ تَكُونُ نَاقِصَةً لِأَنَّهَا بَعْدُ مَا وَصَلَتْ إِلَى حَالَةِ الْكَمَالِ، وَالْمُسِنَّةُ كَأَنَّهَا صَارَتْ نَاقِصَةً وَتَجَاوَزَتْ عَنْ حَدِّ الْكَمَالِ، فأما المتوسطة فهي التي تكوى فِي حَالَةِ الْكَمَالِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى سُؤَالَهُمُ الثَّانِيَ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا لَوْنُها وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا حَالَ السِّنِّ شَرَعُوا بَعْدَهُ فِي تَعَرُّفِ حَالِ اللَّوْنِ فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بأنها: صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها، والفقوع/ أشدها يَكُونُ مِنَ الصُّفْرَةِ وَأَنْصَعُهُ، يُقَالُ فِي التَّوْكِيدِ أَصْفَرُ فَاقِعٌ وَأَسْوَدُ حَالِكٌ وَأَبْيَضُ يَقَقٌ وَأَحْمَرُ قانٍ وأخضر ناضر، وهاهنا سؤالان:
الْأَوَّلُ: «فَاقِعٌ» هَاهُنَا وَاقِعٌ خَبَرًا عَنِ اللَّوْنِ فَكَيْفَ يَقَعُ تَأْكِيدًا لِصَفْرَاءَ؟ الْجَوَابُ: لَمْ يَقَعْ خَبَرًا عَنِ اللَّوْنِ إِنَّمَا وَقَعَ تَأْكِيدًا لِصَفْرَاءَ إِلَّا أَنَّهُ ارْتَفَعَ اللَّوْنُ بِهِ ارْتِفَاعَ الْفَاعِلِ وَاللَّوْنُ سَبَبُهَا وَمُلْتَبِسٌ بِهَا، فَلَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِكَ:
صَفْرَاءُ فَاقِعَةٌ وَصَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا.
السُّؤَالُ الثَّانِي: فَهَلَّا قِيلَ صَفْرَاءُ فَاقِعَةٌ وَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي ذِكْرِ اللَّوْنِ؟ الْجَوَابُ: الْفَائِدَةُ فِيهِ التَّوْكِيدُ لِأَنَّ اللَّوْنَ اسْمٌ لِلْهَيْئَةِ وَهِيَ الصُّفْرَةُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ شَدِيدَةُ الصُّفْرَةِ صُفْرَتُهَا فَهُوَ مِنْ قَوْلِكَ: جِدُّ جِدِّهِ وَجُنُونُ مَجْنُونٍ. وَعَنْ وَهْبٍ: إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا خُيِّلَ إِلَيْكَ أَنَّ شُعَاعَ الشَّمْسِ يَخْرُجُ مِنْ جِلْدِهَا.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: تَسُرُّ النَّاظِرِينَ فَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْبَقَرَةَ لِحُسْنِ لَوْنِهَا تَسُرُّ مِنْ نَظَرِ إِلَيْهَا، قَالَ الْحَسَنُ:
الصَّفْرَاءُ هَاهُنَا بِمَعْنَى السَّوْدَاءِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْأَسْوَدَ أَصْفَرَ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الدخان: كأنه جمالات صُفْرٌ الْمُرْسَلَاتِ: 33 أَيْ سُودٌ، وَاعْتَرَضُوا عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ بِأَنَّ الْأَصْفَرَ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْأَسْوَدُ الْبَتَّةَ، فَلَمْ يَكُنْ حَقِيقَةً فِيهِ، وَأَيْضًا السَّوَادُ لَا يُنْعَتُ بِالْفُقُوعِ، إِنَّمَا يُقَالُ: أَصْفَرُ فَاقِعٌ وَأَسْوَدُ حَالِكٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَأَمَّا السُّرُورُ فَإِنَّهُ حَالَةٌ نَفْسَانِيَّةٌ تَعْرِضُ عِنْدَ حُصُولِ اعْتِقَادٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ ظَنٍّ بِحُصُولِ شَيْءٍ لَذِيذٍ أَوْ نَافِعٍ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى سُؤَالَهُمُ الثَّالِثَ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ وَهَاهُنَا مسائل: