ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ «1» بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَفِيهِ لَطَائِفُ الْأُولَى: أَنَّ شَفَقَةَ الْأُبُوَّةِ كَمَا هِيَ فِي الدُّنْيَا مُتَوَفِّرَةٌ كَذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، وَلِهَذَا طَيَّبَ اللَّهُ تَعَالَى قُلُوبَ عِبَادِهِ بِأَنَّهُ لَا يُوَلِّهَهُمْ بِأَوْلَادِهِمْ بَلْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمْ، فَإِنْ قِيلَ قَدْ ذَكَرْتَ فِي تَفْسِيرِ بَعْضِ الْآيَاتِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُسَلِّي الْآبَاءَ عَنِ الْأَبْنَاءِ وَبِالْعَكْسِ، وَلَا يَتَذَكَّرُ الْأَبُ الَّذِي هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ الِابْنَ الَّذِي هُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، نَقُولُ الْوَلَدُ الصَّغِيرُ وَجَدَ فِي وَالِدِهِ الْأُبُوَّةَ الْحَسَنَةَ وَلَمْ يُوجَدْ لَهَا مُعَارِضٌ وَلِهَذَا أَلْحَقَ اللَّهُ الْوَلَدَ بِالْوَالِدِ فِي الْإِسْلَامِ فِي دَارِ الدُّنْيَا عِنْدَ الصِّغَرِ وَإِذَا كَبِرَ اسْتَقَلَّ، فَإِنْ كَفَرَ يُنْسَبْ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لِلْمُسْلِمِينَ كَالْأَبِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ الْحُجُرَاتِ: 10 جَمْعُ أَخٍ بِمَعْنَى أُخُوَّةِ الْوِلَادَةِ وَالْإِخْوَانُ جَمْعُهُ بِمَعْنَى أُخُوَّةِ الصَّدَاقَةِ وَالْمَحَبَّةِ فَإِذَنِ الْكُفْرُ مِنْ حَيْثُ الْحِسُّ وَالْعُرْفُ أَبٌ، فَإِنْ خَالَفَ دِينُهُ دِينَ أَبِيهِ صَارَ لَهُ مِنْ حَيْثُ الشَّرْعُ أَبٌ آخَرُ، وَفِيهِ إِرْشَادُ الْآبَاءِ إِلَى أَنْ لَا يَشْغَلَهُمْ شَيْءٌ عَنِ الشَّفَقَةِ عَلَى الْوَلَدِ فَيَكُونُ مِنَ الْقَبِيحِ الْفَاحِشِ أَنْ يَشْتَغِلَ الْإِنْسَانُ بِالتَّفَرُّجِ فِي الْبُسْتَانِ مَعَ الْأَحِبَّةِ الْإِخْوَانِ وعن تَحْصِيلِ قُوتِ الْوِلْدَانِ، وَكَيْفَ لَا يَشْتَغِلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ بِمَا فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ عَنْ أَوْلَادِهِمْ حَتَّى ذَكَرُوهُمْ فَأَرَاحَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بقوله ألحقنا بهم ذرياتهم وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا ظَنُّكَ بِالْفَاسِقِ الَّذِي يُبَذِّرُ مَالَهُ فِي الْحَرَامِ وَيَتْرُكُ أَوْلَادَهُ يَتَكَفَّفُونَ وُجُوهَ اللِّئَامِ وَالْكِرَامِ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ يُورِّثُ أَوْلَادَهُ مَالًا حَلَالًا يُكْتَبُ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ، وَلِهَذَا لَمْ يجوز لِلْمَرِيضِ التَّصَرُّفُ فِي أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ.
اللَّطِيفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ «2» فَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّا فِي الْآخِرَةِ نُلْحَقُ بِهِمْ لِأَنَّ فِي دَارِ الدُّنْيَا مُرَاعَاةَ الْأَسْبَابِ أَكْثَرُ. وَلِهَذَا لَمْ يُجْرِ اللَّهُ عَادَتَهُ عَلَى أَنْ يُقْدِّمَ بَيْنَ يَدَيِ الْإِنْسَانِ طَعَامًا مِنَ السَّمَاءِ، فَمَا يَتَسَبَّبُ لَهُ بِالزِّرَاعَةِ وَالطَّحْنِ وَالْعَجْنِ لَا يَأْكُلُهُ، وَفِي الْآخِرَةِ/ يُؤْتِيهِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ سَعْيٍ جَزَاءً لَهُ عَلَى مَا سَعَى لَهُ مِنْ قَبْلُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ دَلِيلًا ظَاهِرًا عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُلْحِقُ بِهِ وَلَدَهُ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا كَمَا اتَّبَعَهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ وَلَمْ يَعْتَقِدْ شَيْئًا.
اللَّطِيفَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بِإِيمانٍ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَتْبَعَ الْوَلَدَ الْوَالِدَيْنِ فِي الْإِيمَانِ وَلَمْ يُتْبِعْهُ أَبَاهُ فِي الْكُفْرِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْكُفَّارِ حُكِمَ بِإِسْلَامِ أَوْلَادِهِ، وَمَنِ ارْتَدَّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِ وَلَدِهِ.
اللَّطِيفَةُ الرَّابِعَةُ: قال في الدنيا أَتْبَعْناهُمْ وَقَالَ فِي الْآخِرَةِ: أَلْحَقْنا بِهِمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ في الدنيا لا يدرك الصغير التبع مساوات الْمَتْبُوعِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ هُوَ تَبَعًا وَالْأَبُ أَصْلًا لِفَضْلِ السَّاعِي عَلَى غَيْرِ السَّاعِي، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَإِذَا أَلْحَقَ اللَّهُ بِفَضْلِهِ وَلَدَهُ بِهِ جُعِلَ لَهُ مِنَ الدَّرَجَةِ مِثْلُ مَا لِأَبِيهِ.
اللَّطِيفَةُ الْخَامِسَةُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَلَتْناهُمْ تطييب لقلبهم وإزالة وهم الْمُتَوَهِّمِ أَنَّ ثَوَابَ عَمَلِ الْأَبِ يُوَزَّعُ عَلَى الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ بَلْ لِلْوَالِدِ أَجْرُ عَمَلِهِ بِفَضْلِ السَّعْيِ وَلِأَوْلَادِهِ مِثْلُ ذَلِكَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةً.
اللَّطِيفَةُ السَّادِسَةُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ عَمَلِهِمْ وَلَمْ يَقُلْ مِنْ أَجْرِهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قوله تعالى: