السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلَّا أَمَرَ بِذَبْحِ غَيْرِ الْبَقَرَةِ، وَأَجَابُوا بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي غَيْرِهَا لَوْ أُمِرُوا به كالكلام فيها، ثُمَّ ذَكَرُوا فِيهَا فَوَائِدَ، مِنْهَا التَّقَرُّبُ بِالْقُرْبَانِ الَّذِي كَانَتِ الْعَادَةُ بِهِ جَارِيَةً وَلِأَنَّ هَذَا الْقُرْبَانَ كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَعْظَمِ الْقَرَابِينِ وَلِمَا فِيهِ مِنْ مَزِيدِ الثَّوَابِ لِتَحَمُّلِ الْكُلْفَةِ فِي تَحْصِيلِ هَذِهِ الْبَقَرَةِ عَلَى غَلَاءِ ثَمَنِهَا، وَلِمَا فِيهِ مِنْ حُصُولِ الْمَالِ الْعَظِيمِ لِمَالِكِ الْبَقَرَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ ذَلِكَ الْبَعْضَ الَّذِي ضَرَبُوا الْقَتِيلَ بِهِ مَا هُوَ؟ وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُمْ كَانُوا مُخَيَّرِينَ فِي أَبْعَاضِ الْبَقَرَةِ لِأَنَّهُمْ أُمِرُوا بِضَرْبِ الْقَتِيلِ بِبَعْضِ الْبَقَرَةِ وَأَيُّ بَعْضٍ مِنْ أَبِعَاضِ الْبَقَرَةِ ضَرَبُوا الْقَتِيلَ بِهِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُمْتَثِلِينَ لِمُقْتَضَى قَوْلِهِ: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها
وَالْإِتْيَانُ بِالْمَأْمُورِ بِهِ يَدُلُّ عَلَى الْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ عَلَى مَا ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي التَّخْيِيرَ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْبَعْضِ الَّذِي ضُرِبَ بِهِ الْقَتِيلُ فَقِيلَ: لِسَانُهَا وَقِيلَ: فَخْذُهَا الْيُمْنَى وَقِيلَ: ذَنَبُهَا وَقِيلَ: الْعَظْمُ الَّذِي يَلِي الْغُضْرُوفَ وَهُوَ أَصْلُ الْآذَانِ، وَقِيلَ: الْبِضْعَةُ بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنْ وَرَدَ خَبَرٌ صَحِيحٌ قُبِلَ وَإِلَّا وَجَبَ السُّكُوتُ عَنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ، فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا فَضَرَبُوهُ بِبَعْضِهَا فَحَيِيَ إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ ذَلِكَ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
وَعَلَيْهِ هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ الْبَقَرَةِ: 60 أَيْ فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ، رُوِيَ أَنَّهُمْ لَمَّا ضَرَبُوهُ قَامَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَأَوْدَاجُهُ تَشْخُبُ دَمًا، وَقَالَ قَتَلَنِي فُلَانٌ، وَفُلَانٌ لا بني عَمِّهِ ثُمَّ سَقَطَ مَيِّتًا: وَقُتِلَا.
أَمَّا قَوْلُهُ تعالى: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذِهِ الْآيَةِ وجهان: أحدهما: أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى نَفْسِ ذَلِكَ الْمَيِّتِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ احْتِجَاجٌ فِي صِحَّةِ الْإِعَادَةِ، ثُمَّ هذا الِاحْتِجَاجُ أَهْوَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَوْ عَلَى غَيْرِهِمْ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: قَالَ الْأَصَمُّ: إِنَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُ إِنْ ظَهَرَ لَهُمْ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ هَذَا الْإِحْيَاءَ قَدْ كَانَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَلِمُوا صِحَّةَ الْإِعَادَةِ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ بِالتَّوَاتُرِ فَإِنَّهُ يَكُونُ دِاعِيَةً لَهُمْ إِلَى التَّفَكُّرِ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ مِنْهُ تَعَالَى ذِكْرُ الْأَمْرِ بِالضَّرْبِ وَأَنَّهُ سَبَبُ إحياء ذلك/ الميت، ثم قال: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
فَجَمَعَ الْمَوْتى
وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ الْقَتِيلَ لَمَا جَمَعَ فِي الْقَوْلِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: دَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِعَادَةَ كَالِابْتِدَاءِ فِي قُدْرَتِهِ. الثَّانِي: قَالَ الْقَفَّالُ: ظَاهِرُ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: إِحْيَاءُ اللَّهِ تَعَالَى لِسَائِرِ الْمَوْتَى يَكُونُ مِثْلَ هَذَا الْإِحْيَاءِ الَّذِي شَاهَدْتُمْ، لِأَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ وَلَمْ يُشَاهِدُوا شَيْئًا مِنْهُ، فَإِذَا شَاهَدُوهُ اطْمَأَنَّتْ قُلُوبُهُمْ وَانْتَفَتْ عَنْهُمُ الشُّبْهَةُ الَّتِي لَا يَخْلُو مِنْهَا الْمُسْتَدِلُّ، وَقَدْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى إِلَى قَوْلِهِ: لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي الْبَقَرَةِ: 26 فَأَحْيَا اللَّهُ تَعَالَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْقَتِيلَ عَيَانًا، ثُمَّ قَالَ لهم: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
أَيْ كَالَّذِي أَحْيَاهُ فِي الدُّنْيَا يُحْيِي فِي الْآخِرَةِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ فِي ذَلِكَ الْإِيجَادِ إِلَى مَادَّةٍ وَمُدَّةٍ وَمِثَالٍ وَآلَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنِ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تعالى: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
عَلَى أَنَّ الْمَقْتُولَ مَيِّتٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَاسَ عَلَى إِحْيَاءِ ذَلِكَ الْقَتِيلِ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا كَوْنُ الْقَتِيلِ مَيِّتًا.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُرِيكُمْ آياتِهِ
فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنْ ذَلِكَ كَانَ آيَةً وَاحِدَةً فَلِمَ سُمِّيَتْ بِالْآيَاتِ؟