وَإِزَاغَتِهِ فَيَحْصُلُ مُرَادُهُمْ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ أَنْتَ لَا تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ فَهُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَيْكَ وَأَعْرَضُوا فَقَدِ اخْتَارُوا كَيْدَ الشَّيْطَانِ وَرَضُوا بِإِزَاغَتِهِ، وَالْإِرَادَةُ بِمَعْنَى الِاخْتِيَارِ وَالْمَحَبَّةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ الشُّورَى: 20 وَكَمَا قَالَ: أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ الصَّافَّاتِ: 86 وَأَظْهَرُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ الْمَائِدَةِ: 29 الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْمُرَادَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا لِلَّهِ فَهُوَ وَاصِلٌ إِلَيْهِمْ وَهُمْ عَنْ قَرِيبٍ مَكِيدُونَ، وَتَرْتِيبُ الْكَلَامِ هُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَبْقَ حُجَّةٌ فِي الْإِعْرَاضِ فَهُمْ يُرِيدُونَ نُزُولَ الْعَذَابِ بِهِمْ وَاللَّهُ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا لَا يَسْأَلُهُمْ أَجْرًا وَيَهْدِيهِمْ إِلَى مَا لَا عِلْمَ لَهُمْ وَلَا كِتَابَ عِنْدَهُمْ وَهُمْ يُعْرِضُونَ، فَهُمْ يُرِيدُونَ إِذًا أَنْ يُهْلِكَهُمْ وَيَكِيدَهُمْ، لِأَنَّ الِاسْتِدْرَاجَ كَيْدٌ وَالْإِمْلَاءَ لِازْدِيَادِ الْإِثْمِ، كَذَلِكَ لَا يُقَالُ هُوَ فَاسِدٌ لِأَنَّ الْكَيْدَ وَالْإِسَاءَةَ لَا يُطْلَقُ عَلَى فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا بِطَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ، وكذلك المكر فلا يقابله أَسَاءَ اللَّهُ إِلَى الْكُفَّارِ وَلَا اعْتَدَى اللَّهُ إِلَّا إِذَا ذُكِرَ أَوَّلًا فِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ بِسَبَبِهِ لَفْظًا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها الشُّورَى: 40 وَقَالَ: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ الْبَقَرَةِ: 194 وَقَالَ: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ آلِ عِمْرَانَ: 54 وَقَالَ: يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً الطَّارِقِ: 15، 16 لِأَنَّا نَقُولُ الْكَيْدُ مَا يَسُوءُ مَنْ نَزَلَ بِهِ وَإِنْ حَسُنَ مِمَّنْ وُجِدَ مِنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ الْأَنْبِيَاءِ: 57 مِنْ غَيْرِ مُقَابَلَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ وَمَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ: أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَهُمُ الْمَكِيدُونَ؟ نَقُولُ الْفَائِدَةُ كَوْنُ الْكَافِرِ مَكِيدًا فِي مُقَابَلَةِ كُفْرِهِ لَا فِي مُقَابَلَةِ إِرَادَتِهِ الْكَيْدَ وَلَوْ قَالَ: أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَهُمُ الْمَكِيدُونَ، كَانَ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يُرِيدُوهُ لَا يَكُونُوا مَكِيدِينَ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْكَيْدِ كَيْدُ الشَّيْطَانِ أَوْ كَيْدُ اللَّهِ، بِمَعْنَى عَذَابِهِ إِيَّاهُمْ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ عَامٌّ فِي كُلِّ كَافِرٍ كَادَهُ الشَّيْطَانُ وَيَكِيدُهُ اللَّهُ أَيْ يُعَذِّبُهُ، وَصَارَ الْمَعْنَى عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَتَهْدِيهِمْ لِوَجْهِ اللَّهِ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَتُثْقِلُهُمْ فَيَمْتَنِعُونَ عَنْ الِاتِّبَاعِ، أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْكَ فَيُعْرِضُونَ عَنْكَ، أَمْ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ فَيُرِيدُونَ الْعَذَابَ، وَالْعَذَابُ غَيْرُ مَدْفُوعٍ عَنْهُمْ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ لِكُفْرِهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا مُعَذَّبُونَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي تَنْكِيرِ الْكَيْدِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدَكَ أَوِ الْكَيْدَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ لِيَزُولَ الْإِبْهَامُ؟ نَقُولُ فِيهِ فَائِدَةٌ، وَهِيَ الْإِشَارَةُ إِلَى وُقُوعِ الْعَذَابِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ فَكَأَنَّهُ قَالَ يَأْتِيهِمْ بَغْتَةً وَلَا يَكُونُ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ أَوْ يَكُونُ إِيرَادًا لِعَظَمَتِهِ كَمَا ذكرنا مرارا. ثم قال تعالى:
سورة الطور (52) : آية 43أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)
أَعَادَ التَّوْحِيدَ وَهُوَ يُفِيدُ فَائِدَةَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ الطُّورِ: 39 وَفِي سُبْحانَ اللَّهِ بَحْثٌ شَرِيفٌ: وَهُوَ أَهْلَ اللُّغَةِ قَالُوا: سُبْحَانَ اسْمُ عَلَمٍ لِلتَّسْبِيحِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ الرُّومِ: 17 وَأَكْثَرْنَا مِنَ الْفَوَائِدِ، فَإِنْ قِيلَ يَجُوزُ أَنْ نَقُولَ سُبْحَانَ اللَّهِ اسْمُ مَصْدَرٍ، وَنَقُولُ سُبْحَانَ عَلَى وَزْنِ فُعْلَانَ فَنَذْكُرُ سُبْحَانَ مِنْ غَيْرِ مَوَاضِعِ الْإِيقَاعِ لِلَّهِ كَمَا يُقَالُ فِي التَّسْبِيحِ، نَقُولُ ذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ الْقَائِلِ مِنْ حَرْفُ جَارٍّ وَفِي كَلِمَةُ ظَرْفٍ حَيْثُ يُخْبَرُ عَنْهُ مَعَ أَنَّ الْحَرْفَ لَا يُخْبَرُ عَنْهُ فَيُجَابُ بِأَنَّ مِنْ وَفِي حِينَئِذٍ جُعِلَا كَالِاسْمِ وَلَمْ يُتْرَكَا عَلَى أَصْلِهِمَا الْمُسْتَعْمَلِ فِي مِثْلِ قَوْلِكَ أَخَذْتُ مِنْ زَيْدٍ وَالدِّرْهَمُ فِي