الْعُمُومِ وَالْمُرَادُ الْكَثِيرُ، وَفِي الْبَعْضِ يُسْتَعْمَلُ الْكَثِيرُ والمراد الكل وكلاهما على طريقة واحد، وَهُوَ اسْتِقْلَالُ الْبَاقِي وَعَدَمُ الِاعْتِدَادِ، فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ الْأَحْقَافِ: 25 كَأَنَّهُ يَجْعَلُ الْخَارِجَ عَنِ الْحُكْمِ غَيْرَ مُلْتَفَتٍ إِلَيْهِ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ وَقَوْلِهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ النَّحْلِ: 75 وَقَوْلِهِ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ سَبَأٍ: 41 يُجْعَلُ الْمَخْرَجُ غَيْرَ مُلْتَفَتٍ إِلَيْهِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ مَا أَخْرَجَهُ كَالْأَمْرِ الْخَارِجِ عَنِ الْحُكْمِ كَأَنَّهُ مَا خَرَجَ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْكَلَامِ، فَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ مَذْكُورًا لِأَمْرٍ فِيهِ يُبَالَغُ يُسْتَعْمَلُ الْكُلُّ، مِثَالُهُ يُقَالُ لِلْمَلِكِ كُلُّ النَّاسِ يَدْعُونَ لَكَ إِذَا كَانَ الْغَرَضُ بَيَانَ كَثْرَةِ الدُّعَاءِ لَهُ لَا غَيْرَ، وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ مَذْكُورًا لِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهُ لَا يُبَالَغُ فِيهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ غَيْرُهُ فَلَا يُسْتَعْمَلُ الْكُلُّ، مِثَالُهُ إِذَا قَالَ الْمَلِكُ لِمَنْ قَالَ لَهُ اغْتَنِمْ دُعَائِيَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَدْعُونَ لِي، إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ احْتِيَاجِهِ إِلَى دُعَائِهِ لَا لِبَيَانِ كَثْرَةِ الدُّعَاءِ لَهُ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ: لَا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ وَلَمْ يَقُلْ لَا يَشْفَعُونَ مَعَ أَنَّ دَعْوَاهُمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا لَا أَنَّ شَفَاعَتَهُمْ تَنْفَعُ أَوْ تُغْنِي وَقَالَ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ الْبَقَرَةِ: 255 فَنَفَى الشَّفَاعَةَ بِدُونِ الْإِذْنِ وَقَالَ: مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ السجدة: 4 نَفَى الشَّفِيعَ وَهَاهُنَا نَفَى الْإِغْنَاءَ؟
نَقُولُ هُمْ كَانُوا يَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ نَفْعَ شَفَاعَتِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى الزُّمَرِ: 3 ثُمَّ نَقُولُ نَفْيُ دَعْوَاهُمْ يَشْتَمِلُ عَلَى فَائِدَةٍ عَظِيمَةٍ، أَمَّا نَفْيُ دَعْوَاهُمْ لِأَنَّهُمْ قَالُوا الْأَصْنَامُ تَشْفَعُ لَنَا شَفَاعَةً مُقَرِّبَةً مُغْنِيَةً فَقَالَ: لَا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ بِدَلِيلِ أَنَّ شَفَاعَةَ الْمَلَائِكَةِ لَا تُغْنِي، وَأَمَّا الْفَائِدَةُ فَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَثْنَى بِقَوْلِهِ:
إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ أَيْ فَيَشْفَعُ وَلَكِنْ لَا يَكُونُ فِيهِ بَيَانُ أَنَّهَا تُقْبَلُ وَتُغْنِي أَوْ لَا تُقْبَلُ، فَإِذَا قَالَ: لَا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ ثُمَّ قَالَ: إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ/ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ تُغْنِي فَيَحْصُلُ الْبِشَارَةُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا غَافِرٍ: 7 وَقَالَ تَعَالَى:
وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ الشُّورَى: 5 وَالِاسْتِغْفَارُ شَفَاعَةٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ الْبَقَرَةِ: 255 فَلَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ الشَّفَاعَةِ وَقَبُولَهَا كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَيْثُ رَدَّ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ عَظَمَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ لَا يَنْطِقُ فِي حَضْرَتِهِ أَحَدٌ وَلَا يَتَكَلَّمُ كَمَا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ «1» النَّبَأِ: 38 .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ تَتَعَلَّقَ بِالْإِذْنِ وَهُوَ عَلَى طَرِيقَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي الشَّفَاعَةِ لِمَنْ يَشَاءُ الشَّفَاعَةَ وَيَرْضَى الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْإِذْنُ فِي الْمَشْفُوعِ لَهُ لِأَنَّ الْإِذْنَ حَاصِلٌ لِلْكُلِّ فِي الشَّفَاعَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ جَمِيعَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ لَهُمْ فَلَا مَعْنًى لِلتَّخْصِيصِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُنَازَعَ فِيهِ وَثَانِيهِمَا: أَنْ تَتَعَلَّقَ بِالْإِغْنَاءِ يَعْنِي إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لَهُمْ فِي الشَّفَاعَةِ فَتُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ هَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ تَشْفَعَ الْمَلَائِكَةُ، وَالْإِغْنَاءُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِمَنْ يَشَاءُ، فَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ التَّنْبِيهَ عَلَى مَعْنَى عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ الْمَلَكَ إِذَا شَفَعَ فَاللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَشِيئَتِهِ بَعْدَ شَفَاعَتِهِمْ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَرْضى؟ نَقُولُ فِيهِ فَائِدَةُ الْإِرْشَادِ، وَذَلِكَ لأنه لما قال: