وَمُسَبِّبُ الْأَسْبَابِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْكَافُ أَحْسَنُ مَوْقِعًا، أَمَّا عَلَى قَوْلِنَا: إِنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ فَهُوَ تَهْدِيدٌ بَلِيغٌ لِلْمُسِيءِ وَحَثٌّ شَدِيدٌ لِلْمُحْسِنِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَيُّهَا السَّامِعُ كَائِنًا مَنْ كَانَ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى يُفِيدُ الْأَمْرَيْنِ إِفَادَةً بَالِغَةً حَدَّ الْكَمَالِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِنَا: الْخِطَابُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ تَسْلِيَةٌ لِقَلْبِهِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا تَحْزَنْ فَإِنَّ الْمُنْتَهَى إِلَى اللَّهِ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِلَى أَنْ قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ السُّورَةِ:
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يس: 76- 83 وَأَمْثَالُهُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اللَّامُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِلْعَهْدِ لِأَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: أَبَدًا إِنَّ مَرْجِعَكُمْ إِلَى اللَّهِ
فَقَالَ:
وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى الْمَوْعُودُ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي لِلْعُمُومِ أَيْ إِلَى الرَّبِّ كُلُّ مُنْتَهًى وَهُوَ مَبْدَأٌ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ نَقُولُ: مُنْتَهَى الْإِدْرَاكَاتِ الْمُدْرِكَاتِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ أَوَّلًا يُدْرِكُ الْأَشْيَاءَ الظَّاهِرَةَ ثُمَّ يُمْعِنُ النَّظَرَ فَيَنْتَهِي إِلَى اللَّهِ فَيَقِفُ عنده ثم قال تعالى:
سورة النجم (53) : آية 43وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْأُولَى: عَلَى قَوْلِنَا: إِلَيْهِ الْمُنْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ إِثْبَاتُ الْوَحْدَانِيَّةِ، هَذِهِ الْآيَاتُ مُثْبِتَاتٌ لِمَسَائِلَ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ مِنْ جُمْلَتِهَا قُدْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ مَنْ يَعْتَرِفُ بِأَنَّ اللَّهَ الْمُنْتَهَى وَأَنَّهُ وَاحِدٌ لَكِنْ يَقُولُ: هُوَ مُوجِبٌ لَا قَادِرٌ، فَقَالَ تَعَالَى: هُوَ أَوْجَدَ ضِدَّيْنِ الضَّحِكَ وَالْبُكَاءَ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ وَالْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ وَالذُّكُورَةَ وَالْأُنُوثَةَ فِي مَادَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ قَادِرٍ وَاعْتَرَفَ بِهِ كُلُّ عَاقِلٍ، وَعَلَى قَوْلِنَا: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:
وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى النجم: 42 بَيَانُ الْمَعَادِ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى بَيَانِ أَمْرِهِ فَهُوَ كَمَا يَكُونُ فِي بَعْضِهَا ضَاحِكًا فَرِحًا وَفِي بَعْضِهَا بَاكِيًا مَحْزُونًا كَذَلِكَ يُفْعَلُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَضْحَكَ وَأَبْكى لَا مَفْعُولَ لَهُمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّهُمَا مَسُوقَتَانِ لِقُدْرَةِ اللَّهِ لَا لِبَيَانِ الْمَقْدُورِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْمَفْعُولِ. يَقُولُ الْقَائِلُ: فُلَانٌ بِيَدِهِ الْأَخْذُ وَالْعَطَاءُ يُعْطِي وَيَمْنَعُ وَلَا يُرِيدُ مَمْنُوعًا وَمُعْطًى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَارَ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى لِأَنَّهُمَا أَمْرَانِ لَا يُعَلَّلَانِ فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنَ الطَّبِيعِيِّينَ أَنْ يُبْدِيَ فِي اخْتِصَاصِ الْإِنْسَانِ بِالضَّحِكِ وَالْبُكَاءِ وَجْهًا وَسَبَبًا، وَإِذَا لَمْ يُعَلَّلْ بِأَمْرٍ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُوجِدٍ فَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى، بِخِلَافِ الصِّحَّةِ وَالسَّقَمِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: سَبَبُهُمَا اخْتِلَالُ الْمِزَاجِ وَخُرُوجُهُ عَنِ الِاعْتِدَالِ، وَيَدُلُّكَ عَلَى هَذَا أَنَّهُمْ إِذَا ذَكَرُوا فِي الضَّحِكِ أَمْرًا لَهُ الضَّحِكُ قَالُوا: قُوَّةُ التَّعَجُّبِ وَهُوَ فِي غَايَةِ الْبُطْلَانِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ رُبَّمَا يَبْهَتُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْأُمُورِ الْعَجِيبَةِ وَلَا يَضْحَكُ، وَقِيلَ: قُوَّةُ الْفَرَحِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَفْرَحُ كَثِيرًا وَلَا يَضْحَكُ، وَالْحَزِينُ الَّذِي عِنْدَ غَايَةِ الْحُزْنِ يُضْحِكُهُ الْمُضْحِكُ، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي الْبُكَاءِ، وَإِنْ قِيلَ لِأَكْثَرِهِمْ عِلْمًا بِالْأُمُورِ الَّتِي يَدَّعِيهَا الطَّبِيعِيُّونَ إِنَّ خُرُوجَ الدَّمْعِ مِنَ الْعَيْنِ عِنْدَ أُمُورٍ مَخْصُوصَةٍ لِمَاذَا؟ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَعْلِيلٍ صَحِيحٍ، وَعِنْدَ الْخَوَاصِّ كَالَّتِي فِي الْمِغْنَاطِيسِ وَغَيْرِهَا يَنْقَطِعُ الطَّبِيعِيُّ، كَمَا أَنَّ عِنْدَ أَوْضَاعِ الْكَوَاكِبِ يَنْقَطِعُ هُوَ وَالْمُهَنْدِسُ الَّذِي لَا يُفَوِّضُ أَمْرَهُ إلى قدرة الله تعالى وإرادته ثم قال تعالى:
سورة النجم (53) : آية 44وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (44)