فَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِمْ عَائِدٌ إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ ثَمَّ قَالَ: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ لَكِنْ لَمْ يَسْتَثْنِ عِنْدَ قَوْلِهِ: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ وَآلُهُ مِنْ قَوْمِهِ فَيَكُونُ آلُهُ قَدْ كَذَّبُوا وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؟ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِمَّنْ عَادَ إِلَيْهِمُ الضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِمْ وَهُمُ الْقَوْمُ بِأَسْرِهِمْ غَيْرَ أَنَّ قَوْلَهُ: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ لَا يُوجِبُ كَوْنَ آلِهِ مُكَذِّبِينَ، لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: عَصَى أَهْلُ بَلْدَةِ كَذَا يَصِحُّ وَإِنْ كَانَ فِيهَا شِرْذِمَةٌ قَلِيلَةٌ يُطِيعُونَ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ فِيهِمْ وَاحِدٌ أَوِ اثْنَانِ مِنَ الْمُطِيعِينَ لَا غَيْرَ، فَإِنْ قِيلَ: ماله حَاجَةٌ إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّ قَوْلَهُ:
إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ يَصِحُّ وَإِنْ نَجَا مِنْهُمْ طَائِفَةٌ يَسِيرَةٌ نَقُولُ: الْفَائِدَةُ لَمَّا كَانَتْ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِبَيَانِ إِهْلَاكِ مَنْ كَذَّبَ وَإِنْجَاءِ مَنْ آمَنَ فَكَانَ ذِكْرُ الْإِنْجَاءِ مَقْصُودًا، وَحَيْثُ يَكُونُ الْقَلِيلُ مِنَ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ مَقْصُودًا لَا يَجُوزُ التَّعْمِيمُ وَالْإِطْلَاقُ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ حَالِ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ بِالِاسْتِثْنَاءِ أَوْ بِكَلَامٍ مُنْفَصِلٍ مِثَالُهُ: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ الْحِجْرِ: 30، 31 اسْتَثْنَى الْوَاحِدَ لِأَنَّهُ كَانَ مَقْصُودًا، وَقَالَ تَعَالَى: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ النَّمْلِ: 23 وَلَمْ يَسْتَثْنِ إِذِ الْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّهَا أُوتِيَتْ، لَا بَيَانُ أَنَّهَا مَا أُوتِيَتْ، وَفِي حِكَايَةِ إِبْلِيسَ كِلَاهُمَا مُرَادٌ لِيَعْلَمَ أَنَّ مَنْ تَكَبَّرَ عَلَى آدَمَ عُوقِبَ وَمَنْ تَوَاضَعَ أُثِيبَ كَذَلِكَ الْقَوْلُ هَاهُنَا، وَأَمَّا عِنْدَ التَّكْذِيبِ فَكَأَنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ الْمُكَذِّبِينَ فَلَمْ يَسْتَثْنِ الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ كَلَامٍ مَدْلُولٍ عَلَيْهِ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا فَمَا أَنْجَيْنَا مِنَ الْحَاصِبِ إِلَّا آلَ لُوطٍ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْإِرْسَالُ عَلَيْهِمْ وَالْإِهْلَاكُ يَكُونُ عَامًّا كَمَا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً الْأَنْفَالِ: 25 فَكَانَ الْحَاصِبُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ الْإِرْسَالُ عَلَيْهِ مَقْصُودًا وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَأَطْفَالِهِمْ وَدَوَابِّهِمْ وَمَسَاكِنِهِمْ فَمَا نَجَا مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا آلُ لُوطٍ. فَإِنْ قِيلَ إِذَا لَمْ يَكُنْ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ قَوْمِ لُوطٍ بَلْ كَانَ مَنْ أَمْرٍ عَامٍّ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ لُوطٌ أَيْضًا مُسْتَثْنًى؟ نَقُولُ: هُوَ مُسْتَثْنًى عَقْلًا لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ وَإِنْجَاءُ أَتْبَاعِهِ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُسْتَثْنًى قَوْلُهُ تَعَالَى عَنِ الْمَلَائِكَةِ: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ الْعَنْكَبُوتِ: 32 فِي جَوَابِهِمْ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السلام حيث قال: إِنَّ فِيها لُوطاً العنكبوت: 32 فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ: إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ الْحِجْرِ: 59 اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَآلُ لُوطٍ لَمْ يَكُونُوا مُجْرِمِينَ فَكَيْفَ اسْتَثْنَى مِنْهُمْ؟ وَالْجَوَابُ مِثْلُ مَا ذَكَرْنَا فَأَحَدُ الْجَوَابَيْنِ إِنَّا أَرْسَلَنَا إِلَى قَوْمٍ يَصْدُقُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ مُجْرِمُونَ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يُجْرِمْ ثَانِيهِمَا: إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ بِإِهْلَاكٍ يَعُمُّ الْكُلَّ إِلَّا آلَ لُوطٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ لِبَيَانِ وَقْتِ الْإِنْجَاءِ أَوْ لِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّ آلَ لُوطٍ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا فِيهِمْ وَلَا يُصِيبُهُمُ الْحَاصِبُ كَمَا فِي عَادٍ كَانْتِ الرِّيحُ تَقْلَعُ الْكَافِرَ وَلَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْهَا مَكْرُوهٌ أَوْ يَجْعَلُ لَهُمْ مِدْفَعًا كَمَا فِي قَوْمِ نُوحٍ، فَقَالَ: نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ أَيْ أَمَرْنَاهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْقَرْيَةِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ وَالسَّحَرُ قُبَيْلَ الصُّبْحِ وَقِيلَ هو السدس الأخير من الليل. / ثم قال تعالى:
سورة القمر (54) : آية 35نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35)
أَيْ ذَلِكَ الْإِنْجَاءُ كَانَ فَضْلًا مِنَّا كَمَا أَنَّ ذَلِكَ الْإِهْلَاكَ كَانَ عَدْلًا وَلَوْ أُهْلِكُوا لَكَانَ ذَلِكَ عَدْلًا، قَالَ تَعَالَى:
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً الْأَنْفَالِ: 25 قَالَ الْحُكَمَاءُ الْعُضْوُ الْفَاسِدُ يُقْطَعُ وَلَا بُدَّ أَنْ يُقْطَعَ مَعَهُ جُزْءٌ مِنَ الصَّحِيحِ لِيَحْصُلَ اسْتِئْصَالُ الْفَسَادِ، غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى التَّمْيِيزِ التَّامِّ فَهُوَ مُخْتَارٌ إِنْ شَاءَ أهلك من آمن وكذب، ثُمَّ يُثَبِّتُ الَّذِينَ أَهْلَكَهُمْ مِنَ الْمُصَدِّقِينَ فِي دَارِ الْجَزَاءِ وَإِنْ شَاءَ أَهْلَكَ مَنْ كَذَّبَ، فَقَالَ:
نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا إِشَارَةً إِلَى ذَلِكَ وَفِي نَصْبِهَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ كَأَنَّهُ قَالَ: نَجَّيْنَاهُمْ نِعْمَةً مِنَّا ثَانِيهِمَا