ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالسَّماءَ رَفَعَها الرَّحْمَنِ: 7 وَفِي مُقَابِلَتِهَا: وَالْأَرْضَ وَضَعَها الرَّحْمَنِ: 10 ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّ تَقْدِيمَ تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ أَتَمَّ نِعْمَةٍ وَأَعْظَمَ إِنْعَامًا، ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ:
خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ وَهُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: عَلَّمْتُ فُلَانًا الْأَدَبَ حَمَلْتُهُ عَلَيْهِ، وَأَنْفَقْتُ عَلَيْهِ مَالِي، فَقَوْلُهُ:
حَمَلْتُهُ وَأَنْفَقْتُ بَيَانٌ لِمَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ الْإِنْعَامُ الْعَظِيمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ السُّورَةِ وَسُورَةِ الْعَلَقِ، حَيْثُ قَالَ هُنَاكَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ الْعَلَقِ: 1 ثُمَّ قَالَ: وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ الْعَلَقِ: 3، 4 فَقَدَّمَ الْخَلْقَ عَلَى التَّعْلِيمِ؟ نَقُولُ: فِي تِلْكَ السُّورَةِ لَمْ يُصَرِّحْ بِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ فَهُوَ كَالتَّعْلِيمِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ: عَلَّمَهُ الْبَيانَ بَعْدَ قَوْلِهِ:
خَلَقَ الْإِنْسانَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا الْمُرَادُ مِنَ الْإِنْسَانِ؟ نَقُولُ: هُوَ الْجِنْسُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ آدَمُ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ نَظَرًا إِلَى اللَّفْظِ فِي خَلَقَ وَيَدْخُلُ فِيهِ مُحَمَّدٌ وَآدَمُ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا الْبَيَانُ وَكَيْفَ تَعْلِيمُهُ؟ نَقُولُ: مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ قَالَ: الْبَيَانُ الْمَنْطِقُ فَعَلَّمَهُ مَا يَنْطِقُ بِهِ وَيَفْهَمُ غَيْرُهُ مَا عِنْدَهُ، فَإِنَّ بِهِ يَمْتَازُ الْإِنْسَانُ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، وَقَوْلُهُ: خَلَقَ الْإِنْسانَ إِشَارَةٌ إِلَى تقدير خلق جسمه الخاص، وعَلَّمَهُ الْبَيانَ إِشَارَةٌ إِلَى تَمَيُّزِهِ بِالْعِلْمِ عَنْ غَيْرِهِ. وَقَدْ خَرَجَ مَا ذَكَرْنَا أَوَّلًا أَنَّ الْبَيَانَ هُوَ الْقُرْآنُ وَأَعَادَهُ لِيُفَصِّلَ مَا ذَكَرَهُ إِجْمَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: عَلَّمَ الْقُرْآنَ كَمَا قُلْنَا فِي الْمِثَالِ حَيْثُ يَقُولُ الْقَائِلُ: عَلَّمْتُ فُلَانًا الْأَدَبَ حَمَلْتُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا فَالْبَيَانُ مَصْدَرٌ أُرِيدَ بِهِ مَا فِيهِ الْمَصْدَرُ، وَإِطْلَاقُ الْبَيَانِ بِمَعْنَى الْقُرْآنِ عَلَى الْقُرْآنِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، قَالَ تَعَالَى: هَذَا بَيانٌ لِلنَّاسِ آلِ عِمْرَانَ: 138 وَقَدْ سَمَّى اللَّه تَعَالَى الْقُرْآنَ فُرْقَانًا وَبَيَانًا وَالْبَيَانُ فُرْقَانٌ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فَصَحَّ إِطْلَاقُ الْبَيَانِ، وَإِرَادَةُ الْقُرْآنِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: كَيْفَ صَرَّحَ بِذِكْرِ الْمَفْعُولَيْنِ فِي عِلْمِهِ الْبَيَانَ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِهِمَا فِي عِلْمِ الْقُرْآنِ نَقُولُ: أَمَا إِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَّمَ الْقُرْآنَ هُوَ أَنَّهُ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ الْقُرْآنَ، فَنَقُولُ حَذَفَهُ لِعِظَمِ نِعْمَةِ التَّعْلِيمِ وَقَدَّمَ ذِكْرَهُ عَلَى مَنْ عَلَّمَهُ وَعَلَى بَيَانِ خَلْقِهِ، ثُمَّ فَصَّلَ بَيَانَ كَيْفِيَّةِ تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ: خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ، وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا: الْمُرَادُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ الْمَلَائِكَةَ فَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْدِيدُ النِّعَمِ عَلَى الْإِنْسَانِ وَمُطَالَبَتُهُ بِالشُّكْرِ وَمَنْعُهُ مِنَ التَّكْذِيبِ بِهِ، وَتَعْلِيمُهُ لِلْمَلَائِكَةِ لَا يَظْهَرُ لِلْإِنْسَانِ أَنَّهُ فَائِدَةٌ/ رَاجِعَةٌ إِلَى الْإِنْسَانِ «1» وَأَمَّا تَعْلِيمُ الْإِنْسَانِ فَهِيَ نِعْمَةٌ ظَاهِرَةٌ، فَقَالَ: عَلَّمَهُ الْبَيانَ أَيْ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ تَعْدِيدًا لِلنِّعَمِ عَلَيْهِ وَمِثْلُ هَذَا قَالَ في: اقْرَأْ قال مرة: عَلَّمَ بِالْقَلَمِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ الْمُعَلَّمِ، ثُمَّ قَالَ مَرَّةً أخرى: عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ وَهُوَ الْبَيَانُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُتَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ اللُّغَاتِ تَوْقِيفِيَّةٌ حَصَلَ الْعِلْمُ بِهَا بتعليم اللَّه. ثم قال تعالى: