بِالسُّوءِ لِمَنْ ظُلِمَ، ثُمَّ إِنَّ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ مِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ صَارَ مَنْسُوخًا بِآيَةِ الْقِتَالِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَحْصُلُ هاهنا احْتِمَالَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ التَّخْصِيصُ وَاقِعًا بِحَسَبِ الْمُخَاطَبِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَقُولُوا لِلْمُؤْمِنِينَ حُسْنًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَقَعَ بِحَسَبِ الْمُخَاطَبِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا فِي الدعاء إلى الله تعالى وفي الأمر المعروف، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: يَتَطَرَّقُ التَّخْصِيصُ إِلَى الْمُخَاطَبِ دُونَ الْخِطَابِ وَعَلَى الثَّانِي: يَتَطَرَّقُ إِلَى الْخِطَابِ دُونَ الْمُخَاطَبِ، وَزَعَمَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَاقِرُ أَنَّ هَذَا الْعُمُومَ بَاقٍ عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى التَّخْصِيصِ، وَهَذَا هُوَ الْأَقْوَى وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ مَعَ جَلَالِ مَنْصِبِهِمَا أُمِرَا بِالرِّفْقِ وَاللِّينِ مَعَ فِرْعَوْنَ، وَكَذَلِكَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْمُورٌ بِالرِّفْقِ وَتَرْكِ الْغِلْظَةِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ النَّحْلِ: 125 وَقَالَ تَعَالَى:
وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ الْأَنْعَامِ: 108 وَقَوْلُهُ: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً الْفُرْقَانِ: 72 وَقَوْلُهُ: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ الْأَعْرَافِ: 199 أَمَّا الَّذِي تَمَسَّكُوا بِهِ أَوَّلًا مِنْ أَنَّهُ يَجِبُ لَعْنُهُمْ وَذَمُّهُمْ فَلَا يُمْكِنُهُمُ الْقَوْلُ الْحَسَنُ مَعَهُمْ، قُلْنَا: أَوَّلًا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَجِبُ لَعْنُهُمْ وَسَبُّهُمْ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الْأَنْعَامِ: 108 سَلَّمْنَا أَنَّهُ يَجِبُ لَعْنُهُمْ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ اللَّعْنَ لَيْسَ قَوْلًا حَسَنًا بَيَانُهُ: أَنَّ الْقَوْلَ الْحَسَنَ لَيْسَ عِبَارَةً عَنِ الْقَوْلِ الَّذِي يَشْتَهُونَهُ وَيُحِبُّونَهُ، بَلِ الْقَوْلُ الْحَسَنُ هُوَ الَّذِي يَحْصُلُ انْتِفَاعُهُمْ بِهِ وَنَحْنُ إِذَا لَعَنَّاهُمْ وَذَمَمْنَاهُمْ لِيَرْتَدِعُوا بِهِ عَنِ الْفِعْلِ الْقَبِيحِ كَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى نَافِعًا فِي حَقِّهِمْ فَكَانَ ذَلِكَ اللَّعْنُ قَوْلًا حَسَنًا وَنَافِعًا، كَمَا أَنَّ تَغْلِيظَ الْوَالِدِ فِي الْقَوْلِ قَدْ يَكُونُ حَسَنًا وَنَافِعًا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَرْتَدِعُ بِهِ عَنِ الْفِعْلِ الْقَبِيحِ، سَلَّمْنَا أَنَّ لَعْنَهُمْ لَيْسَ قَوْلًا حَسَنًا وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ وُجُوبَهُ يُنَافِي وُجُوبَ الْقَوْلِ الْحَسَنِ، بَيَانُهُ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَوْنِ الشَّخْصِ مُسْتَحِقًّا لِلتَّعْظِيمِ بِسَبَبِ إِحْسَانِهِ إِلَيْنَا وَمُسْتَحِقًّا لِلتَّحْقِيرِ بِسَبَبِ كُفْرِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُ الْقَوْلِ الْحَسَنِ مَعَهُمْ، وَأَمَّا الَّذِي تَمَسَّكُوا بِهِ ثَانِيًا وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ النِّسَاءِ: 148 فَالْجَوَابُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ كَشْفَ حَالِ الظَّالِمِ/ لِيَحْتَرِزَ النَّاسُ عَنْهُ؟ وَهُوَ الْمُرَادُ
بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اذْكُرُوا الْفَاسِقَ بِمَا فِيهِ كَيْ يَحْذَرَهُ النَّاسُ» .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ: كَلَامُ النَّاسِ مَعَ النَّاسِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ أَوْ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِيمَانِ وَهُوَ مَعَ الْكُفَّارِ أَوْ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الطَّاعَةِ وَهُوَ مَعَ الْفَاسِقِ، أَمَّا الدَّعْوَةُ إِلَى الْإِيمَانِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ بِالْقَوْلِ الْحَسَنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى لِمُوسَى وَهَارُونَ: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى طه: 44 أَمَرَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بِالرِّفْقِ مَعَ فِرْعَوْنَ مَعَ جَلَالَتِهِمَا وَنِهَايَةِ كُفْرِ فِرْعَوْنَ وَتَمَرُّدِهِ وَعُتُوِّهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ آلِ عِمْرَانَ: 159 الْآيَةَ، وَأَمَّا دَعْوَةُ الْفُسَّاقِ فَالْقَوْلُ الْحَسَنُ فِيهِ مُعْتَبَرٌ، قَالَ تَعَالَى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
النَّحْلِ: 125 وَقَالَ: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ فُصِّلَتْ: 34 وَأَمَّا فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَ التَّوَصُّلُ إِلَى الْغَرَضِ بِالتَّلَطُّفِ مِنَ الْقَوْلِ لَمْ يَحْسُنْ سِوَاهُ، فَثَبَتَ أَنَّ جَمِيعَ آدَابِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا داخلة تحت قوله تعالى:
وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِحْسَانَ إِلَى ذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ فِي دِينِهِمْ،