الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ قَوْلُهُ: وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ فِيهِ دَلِيلَانِ قَوِيَّانِ عَلَى عِظَمِ الْجُرْمِ فِي حِرْمَانِ الْمَسَاكِينِ أَحَدُهُمَا: عَطَفَهُ عَلَى الْكُفْرِ وَجَعَلَهُ قَرِينَةً لَهُ وَالثَّانِي: ذَكَرَ الْحَضَّ دُونَ الْفِعْلِ لِيُعْلَمَ أَنَّ تَارِكَ الْحَضِّ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَتْرُكُ الْفِعْلَ!.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ يُعَاقَبُونَ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِنَا: إِنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرَائِعِ، وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ كَانَ يَحُضُّ امْرَأَتَهُ عَلَى تَكْثِيرِ الْمَرَقِ لِأَجْلِ الْمَسَاكِينِ، وَيَقُولُ:
خَلَعْنَا نِصْفَ السِّلْسِلَةِ بِالْإِيمَانِ أَفَلَا نَخْلَعُ النِّصْفَ الْبَاقِيَ! وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْهُ مَنْعُ الْكُفَّارِ وَقَوْلُهُمْ: أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ يس: 47 . ثُمَّ قَالَ:
سورة الحاقة (69) : آية 35فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35)
أَيْ لَيْسَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ حَمِيمٌ أَيْ قَرِيبٌ يَدْفَعُ عَنْهُ وَيَحْزَنُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُمْ يَتَحَامَوْنَ وَيَفِرُّونَ مِنْهُ كقوله: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً الْمَعَارِجِ: 10 وَكَقَوْلِهِ: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ غافر: 18 . / قوله تعالى:
سورة الحاقة (69) : آية 36وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُرْوَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنِ الْغِسْلِينِ، فَقَالَ: لَا أَدْرِي مَا الْغِسْلِينُ. وقال الكلبي: وهو مَاءٌ يَسِيلُ مِنَ أَهْلِ النَّارِ مِنَ الْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ وَالدَّمِ إِذَا عُذِّبُوا فَهُوَ غِسْلِينٍ فِعْلِينٌ مِنَ الْغَسْلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الطَّعَامُ مَا هُيِّءَ لِلْأَكْلِ، فَلَمَّا هُيِّءَ الصَّدِيدُ لِيَأْكُلَهُ أَهْلُ النَّارِ كَانَ طَعَامًا لَهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ أُقِيمَ لَهُمْ مَقَامَ الطَّعَامِ فَسُمِّيَ طَعَامًا، كَمَا قَالَ:
تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ
وَالتَّحِيَّةُ لَا تَكُونُ ضَرْبًا إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا أُقِيمَ مَقَامَهُ جَازَ أَنْ يُسَمَّى بِهِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّ الْغِسْلِينَ أَكْلُ مَنْ هو؟
فقال:
سورة الحاقة (69) : آية 37لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (37)
الآثمون أصحاب الخطايا وخطىء الرَّجُلُ إِذَا تَعَمَّدَ الذَّنْبَ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَقُرِئَ الْخَاطِيُونَ بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ يَاءً وَالْخَاطُونَ بِطَرْحِهَا، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ طَعَنَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، وَقَالَ مَا الْخَاطِيُونَ كُلُّنَا نَخْطُو إِنَّمَا هُوَ الْخَاطِئُونَ، مَا الصَّابُونَ، إِنَّمَا هُوَ الصَّابِئُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ الَّذِينَ يَتَخَطَّوْنَ الْحَقَّ إِلَى الْبَاطِلِ وَيَتَعَدَّوْنَ حُدُودَ اللَّهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَقَامَ الدَّلَالَةَ عَلَى إِمْكَانِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ عَلَى وُقُوعِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ أَحْوَالَ السُّعَدَاءِ وَأَحْوَالَ الْأَشْقِيَاءِ، خَتَمَ الْكَلَامَ بِتَعْظِيمِ الْقُرْآنِ فقال.