إن أقوم «1» وَأَصْوَبُ وَأَهْيَأُ وَاحِدٌ، قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَعْتَبِرُونَ الْمَعَانِيَ، فَإِذَا وَجَدُوهَا لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى الْأَلْفَاظِ وَنَظِيرُهُ مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا سَوَّارٍ الْغَنَوِيَّ كَانَ يَقْرَأُ: (فَحَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ) بِالْحَاءِ غَيْرِ الْمُعْجَمَةِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّمَا هُوَ جَاسُوا، فَقَالَ: حَاسُوا وجاسوا واحد وأنا/ أقول: يجب أن نحمل ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ تَفْسِيرًا لِلَفْظِ الْقُرْآنِ لَا عَلَى أَنَّهُ جَعَلَهُ نَفْسَ الْقُرْآنِ، إِذْ لَوْ ذَهَبْنَا إِلَى مَا قَالَهُ ابْنُ جِنِّيٍّ لَارْتَفَعَ الِاعْتِمَادُ عَنْ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ، وَلَجَوَّزْنَا أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ عَبَّرَ عَنِ الْمَعْنَى بِلَفْظٍ رَآهُ مُطَابِقًا لِذَلِكَ الْمَعْنَى، ثُمَّ رُبَّمَا أَصَابَ فِي ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ، وَرُبَّمَا أَخْطَأَ وَهَذَا يَجُرُّ إِلَى الطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ حمل ذلك على ما ذكرناه.
سورة المزمل (73) : آية 7إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7)
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْمُبَرِّدُ: سَبْحًا أَيْ تَقَلُّبًا فِيمَا يَجِبُ وَلِهَذَا سُمِّي السَّابِحُ سَابِحًا لِتَقَلُّبِهِ بِيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، ثُمَّ فِي كَيْفِيَّةِ الْمَعْنَى وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ تَصَرُّفًا وَتَقَلُّبًا فِي مُهِمَّاتِكَ فَلَا تَتَفَرَّغْ لِخِدْمَةِ اللَّهِ إِلَّا بِاللَّيْلِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَمَرْتُكَ بِالصَّلَاةِ فِي اللَّيْلِ الثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ إِنْ فَاتَكَ مِنَ اللَّيْلِ شَيْءٌ مِنَ النَّوْمِ وَالرَّاحَةِ فَلَكَ فِي النَّهَارِ فَرَاغُهُ فَاصْرِفْهُ إِلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ سَبْخًا بِالْخَاءِ الْمُنَقَّطَةِ مِنْ فَوْقُ، وَهُوَ استعارة من سبخ الصوف وهو نقشه وَنَشْرُ أَجْزَائِهِ، فَإِنَّ الْقَلْبَ فِي النَّهَارِ يَتَفَرَّغُ بِسَبَبِ الشَّوَاغِلِ، وَتَخْتَلِفُ هُمُومُهُ بِسَبَبِ الْمُوجِبَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ أَوَّلًا بِقِيَامِ اللَّيْلِ، ثُمَّ ذَكَرَ السَّبَبَ فِي أَنَّهُ لِمَ خَصَّ اللَّيْلَ بِذَلِكَ دُونَ النَّهَارِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ أَشْرَفَ الْأَعْمَالِ الْمَأْمُورِ بِهَا عِنْدَ قِيَامِ الليل ما هو.
سورة المزمل (73) : آية 8وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8)
في قوله تعالى وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِشَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا: الذِّكْرُ، وَالثَّانِي: التَّبَتُّلُ، أَمَّا الذِّكْرُ فَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ:
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ هاهنا وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً الْأَعْرَافِ: 205 لِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مِنْ ذِكْرِ الِاسْمِ بِاللِّسَانِ مُدَّةً ثُمَّ يَزُولُ الِاسْمُ وَيَبْقَى الْمُسَمَّى، فَالدَّرَجَةُ الأولى هي المراد بقوله هاهنا: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي السُّورَةِ الْأُخْرَى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ وَإِنَّمَا تَكُونُ مُشْتَغِلًا بِذِكْرِ الرَّبِّ، إِذَا كُنْتَ فِي مَقَامِ مُطَالَعَةِ رُبُوبِيَّتِهِ، وَرُبُوبِيَّتُهُ عِبَارَةٌ عَنْ أَنْوَاعِ تَرْبِيَتِهِ لَكَ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْكَ، فَمَا دُمْتَ فِي هَذَا الْمَقَامِ تَكُونُ مَشْغُولَ الْقَلْبِ بِمُطَالَعَةِ آلَائِهِ وَنَعْمَائِهِ فَلَا تَكُونُ مُسْتَغْرِقَ الْقَلْبِ بِهِ، وَحِينَئِذٍ يَزْدَادُ التَّرَقِّي فَتَصِيرُ مُشْتَغِلًا بِذِكْرِ إِلَهِيَّتِهِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ الْبَقَرَةِ: 200 وَفِي هَذَا الْمَقَامِ يَكُونُ الْإِنْسَانُ فِي مَقَامِ الْهَيْبَةِ وَالْخَشْيَةِ، لِأَنَّ الْإِلَهِيَّةَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقَهَارِيَّةِ وَالْعِزَّةِ وَالْعُلُوِّ وَالصَّمَدِيَّةِ، وَلَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَرْقَى فِي هَذَا الْمَقَامِ مُتَرَدِّدًا فِي مَقَامَاتِ الْجَلَالِ وَالتَّنْزِيهِ وَالتَّقْدِيسِ إِلَى أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْهَا إِلَى مَقَامِ الْهَوِيَّةِ الْأَحَدِيَّةِ، الَّتِي كَلَّتِ الْعِبَارَاتُ عَنْ شَرْحِهَا، وَتَقَاصَرَتِ الْإِشَارَاتُ عَنِ الِانْتِهَاءِ إِلَيْهَا، وَهُنَاكَ الِانْتِهَاءُ إِلَى الْوَاحِدِ الْحَقِّ، ثُمَّ يَقِفُ لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ نَظِيرٌ فِي الصِّفَاتِ، حَتَّى يَحْصُلَ الِانْتِقَالُ مِنْ صِفَةٍ إِلَى صِفَةٍ، ولا «2» تكون الهوية