قَالَ: وَخُلُقَكَ فَحَسِّنْ، قَالَ الْقَفَّالُ: وَهَذَا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا لَقَّبُوهُ بِالسَّاحِرِ شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ جِدًّا، حَتَّى رَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ وَتَدَثَّرَ بِثِيَابِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ إِظْهَارَ جَزَعٍ وَقِلَّةَ صَبْرٍ يَقْتَضِيهِ سُوءُ الْخُلُقِ، فَقِيلَ لَهُ: قُمْ فَأَنْذِرْ وَلَا تَحْمِلَنَّكَ سَفَاهَتُهُمْ عَلَى تَرْكِ إِنْذَارِهِمْ بَلْ حَسِّنْ خُلُقَكَ وَالثَّانِي: أَنَّهُ زَجْرٌ عَنِ التَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِهِمْ، فَقِيلَ لَهُ: طَهِّرْ ثِيَابَكَ أَيْ قَلْبَكَ عَنْ أَخْلَاقِهِمْ، فِي الِافْتِرَاءِ وَالتَّقَوُّلِ وَالْكَذِبِ وَقَطْعِ الرَّحِمِ وَالثَّالِثُ: فَطَهِّرْ نَفْسَكَ وَقَلْبَكَ عَنْ أَنْ تَعْزِمَ عَلَى الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ وَالْإِسَاءَةِ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ إِذَا فَسَّرْنَا الْآيَةَ بِهَذَا الْوَجْهِ، فَفِي كَيْفِيَّةِ اتِّصَالِهَا بِمَا قَبْلَهَا وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا نَادَاهُ في أول السورة، فقال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ الْمُدَّثِّرُ: 1 وَكَانَ التَّدَثُّرُ لِبَاسًا، وَالدِّثَارُ مِنَ الثِّيَابِ، قِيلَ طَهِّرْ ثِيَابَكَ الَّتِي أَنْتَ مُتَدَثِّرٌ بِهَا عَنْ أَنْ تَلْبَسَهَا عَلَى هَذَا التَّفَكُّرِ وَالْجَزَعِ وَالضَّجَرِ مِنِ افْتِرَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُفَسَّرَ الْمُدَّثِّرُ بِكَوْنِهِ مُتَدَثِّرًا بِالنُّبُوَّةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يَا أَيُّهَا الْمُتَدَثِّرُ بِالنُّبُوَّةِ طَهِّرْ مَا تَدَثَّرْتَ بِهِ عَنِ الْجَزَعِ وَقِلَّةِ الصَّبْرِ، وَالْغَضَبِ وَالْحِقْدِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِهَذَا الدِّثَارِ، ثُمَّ أوضح ذلك بقوله:
وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ المدثر: 7 وَاعْلَمْ أَنَّ حَمْلَ الْمُدَّثِّرِ عَلَى الْمُتَّصِفِ بِبَعْضِ الصِّفَاتِ جَائِزٌ، يُقَالُ: فُلَانٌ طَاهِرُ الْجَيْبِ نَقِيُّ الذَّيْلِ، إِذَا وَصَفُوهُ بِالنَّقَاءِ مِنَ الْمَعَايِبِ، وَيُقَالُ: فُلَانٌ دَنِسُ الثِّيَابِ إِذَا كَانَ مَوْصُوفًا بِالْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَا أَبَ وَابْنًا مِثْلُ مَرْوَانَ وَابْنِهِ
... إِذَا هُوَ بِالْمَجْدِ ارْتَدَى وَتَأَزَّرَا
وَالسَّبَبُ فِي حُسْنِ هَذِهِ الْكِنَايَةِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الثَّوْبَ كَالشَّيْءِ الْمُلَازِمِ لِلْإِنْسَانِ، فَلِهَذَا/ السَّبَبِ جعلوا الثواب كِنَايَةً عَنِ الْإِنْسَانِ، يُقَالُ: الْمَجْدُ فِي ثَوْبِهِ وَالْعِفَّةُ فِي إِزَارِهِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ مَنْ طَهُرَ بَاطِنُهُ، فَإِنَّهُ يَطْهُرُ ظَاهِرُهُ الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ أَمْرٌ لَهُ بِالِاحْتِرَازِ عَنِ الْآثَامِ وَالْأَوْزَارِ الَّتِي كَانَ يَقْدُمُ عَلَيْهَا قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَهَذَا عَلَى تَأْوِيلِ مَنْ حَمَلَ قَوْلَهُ: وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ الشرح: 2، 3 على أيام الجاهلية الوجه الثاني: في تأويل الْآيَةَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَرَفَةَ النَّحْوِيُّ مَعْنَاهُ: نِسَاءَكَ طَهِّرْهُنَّ، وَقَدْ يُكَنَّى عَنِ النِّسَاءِ بِالثِّيَابِ، قَالَ تَعَالَى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ الْبَقَرَةِ: 187 وَهَذَا التَّأْوِيلُ بَعِيدٌ، لِأَنَّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَحْسُنُ اتِّصَالُ الْآيَةِ بِمَا قبلها.
سورة المدثر (74) : آية 5وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي الرُّجْزِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: قَالَ الْعُتْبِيُّ: الرُّجْزُ الْعَذَابُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ الْأَعْرَافِ: 134 أَيِ الْعَذَابَ ثُمَّ سُمِّيَ كَيْدُ الشَّيْطَانِ رِجْزًا لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلْعَذَابِ، وَسُمِّيَتِ الْأَصْنَامُ رِجْزًا لِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى وُجُوبِ الِاحْتِرَازِ عَنْ كُلِّ الْمَعَاصِي، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ احْتِمَالَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ يَعْنِي كُلَّ مَا يُؤَدِّي إِلَى الرُّجْزِ فَاهْجُرْهُ، وَالتَّقْدِيرُ وَذَا الزجر فَاهْجُرْ أَيْ ذَا الْعَذَابِ فَيَكُونُ الْمُضَافُ مَحْذُوفًا والثاني: أنه سمي إلى مَا يُؤَدِّي إِلَى الْعَذَابِ عَذَابًا تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ، بِاسْمِ مَا يُجَاوِرُهُ وَيَتَّصِلُ بِهِ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الرُّجْزَ اسْمٌ لِلْقَبِيحِ الْمُسْتَقْذَرِ وَهُوَ مَعْنَى الرِّجْسِ، فَقَوْلُهُ:
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ كَلَامٌ جَامِعٌ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: اهْجُرِ الْجَفَاءَ وَالسَّفَهَ وَكُلَّ شَيْءٍ قَبِيحٍ، وَلَا تَتَخَلَّقْ بِأَخْلَاقِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُسْتَعْمِلِينَ لِلرُّجْزِ، وَهَذَا يُشَاكِلُ تَأْوِيلَ من فسر قوله: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ المدثر: 4