الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً مَحَلُّهُ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْإِنْسَانِ كَأَنَّهُ قِيلَ: هَلْ أَتَى عَلَيْهِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ غَيْرَ مذكور أو الرفع على الوصف لحين، تَقْدِيرُهُ: هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ لَمْ يكن فيه شيئا.
سورة الإنسان (76) : آية 2إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَشْجُ فِي اللُّغَةِ: الْخَلْطُ، يُقَالُ: مَشَجَ يَمْشُجُ مَشْجًا إِذَا خَلَطَ، وَالْأَمْشَاجُ الْأَخْلَاطُ، قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: وَاحِدُهَا مَشِجٍ وَمَشِيجٍ، وَيُقَالُ لِلشَّيْءِ إِذَا خُلِطَ: مَشِيجٌ كَقَوْلِكَ: خَلِيطٌ وَمَمْشُوجٌ، كَقَوْلِكَ مَخْلُوطٌ. قَالَ الْهُذَلِيُّ:
كَأَنَّ الرِّيشَ وَالْفُوقَيْنِ مِنْهُ
... خِلَافُ النَّصْلِ شَطَّ بِهِ مَشِيجُ
يَصِفُ السَّهْمَ بِأَنَّهُ قَدْ بَعُدَ في الرمية فالتطخ ريشه وفرقاه بِدَمٍ يَسِيرٍ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْأَمْشَاجُ لَفْظٌ مُفْرَدٌ، وَلَيْسَ يُجْمَعُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ صِفَةٌ لِلْمُفْرَدِ وَهُوَ قَوْلُهُ: نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ وَيُقَالُ أَيْضًا: نُطْفَةٌ مشيج، ولا يصح أن يكون أمشاجا جَمْعًا لِلْمَشْجِ بَلْ هُمَا مِثْلَانِ فِي الْإِفْرَادِ ونظيره برمة أعشار «1» أي قطع مسكرة، وَثَوْبٌ أَخْلَاقٌ وَأَرْضٌ سَبَاسِبُ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى كَوْنِ النُّطْفَةِ مُخْتَلِطَةً فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ اخْتِلَاطُ نُطْفَةِ الرَّجُلِ بِنُطْفَةِ الْمَرْأَةِ كَقَوْلِهِ: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ الطَّارِقِ: 7 قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ اخْتِلَاطُ مَاءِ الرَّجُلِ وَهُوَ أَبْيَضُ غَلِيظٌ وَمَاءِ الْمَرْأَةِ وَهُوَ أَصْفَرُ رَقِيقٌ فَيَخْتَلِطَانِ وَيُخْلَقُ الْوَلَدُ مِنْهُمَا، فَمَا كَانَ مِنْ عَصَبٍ وَعَظْمٍ وَقُوَّةٍ فَمِنْ نُطْفَةِ الرَّجُلِ، وَمَا كَانَ مِنْ لَحْمٍ وَدَمٍ فَمِنْ مَاءِ الْمَرْأَةِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ أَلْوَانُ النُّطْفَةِ فَنُطْفَةُ الرَّجُلِ بَيْضَاءُ وَنُطْفَةُ الْمَرْأَةِ صَفْرَاءُ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ أَمْشَاجُهَا عُرُوقُهَا، وَقَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي مِنْ نُطْفَةٍ مُشِجَتْ بِدَمٍ وَهُوَ دَمُ الْحَيْضَةِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا تَلَقَّتْ مَاءَ الرَّجُلِ وَحَبَلَتْ أُمْسِكَ حَيْضُهَا فَاخْتَلَطَتِ النُّطْفَةُ بِالدَّمِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الْأَمْشَاجُ هُوَ أَنَّهُ يَخْتَلِطُ الْمَاءُ وَالدَّمُ أَوَّلًا ثُمَّ يَصِيرُ عَلَقَةً ثُمَّ يَصِيرُ مُضْغَةً، وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ انْتِقَالِ ذَلِكَ الْجِسْمِ مِنْ صِفَةٍ إِلَى صِفَةٍ، وَمِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ فِي النُّطْفَةِ أَخْلَاطًا مِنَ الطَّبَائِعِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْإِنْسَانِ مِنَ الْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ وَالرُّطُوبَةِ وَالْيُبُوسَةِ، وَالتَّقْدِيرُ مِنْ نُطْفَةٍ ذَاتِ أَمْشَاجٍ فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَتَمَّ الْكَلَامُ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ:
الْأَوْلَى هُوَ أَنَّ الْمُرَادَ اخْتِلَاطُ نُطْفَةِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ/ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ النُّطْفَةَ بِأَنَّهَا أَمْشَاجٌ، وَهِيَ إِذَا صَارَتْ عَلَقَةً فَلَمْ يَبْقَ فِيهَا وَصْفٌ أَنَّهَا نُطْفَةٌ، وَلَكِنَّ هَذَا الدَّلِيلَ لَا يَقْدَحُ فِي أَنَّ الْمُرَادَ كَوْنُهَا أمشاجا من الأرض والماء والهواء والحار.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: نَبْتَلِيهِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: نَبْتَلِيهِ مَعْنَاهُ لِنَبْتَلِيَهُ، وَهُوَ كَقَوْلِ الرَّجُلِ: جِئْتُكَ أَقْضِي حَقَّكَ، أَيْ لِأَقْضِيَ حَقَّكَ، وَأَتَيْتُكَ أَسْتَمْنِحُكَ، أَيْ لِأَسْتَمْنِحَكَ، كَذَا قَوْلُهُ: نَبْتَلِيهِ أَيْ لِنَبْتَلِيَهُ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ الْمُدَّثِّرِ: 6 أَيْ لِتَسْتَكْثِرَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: نَبْتَلِيهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ خَلَقْنَاهُ مُبْتَلِينَ لَهُ، يَعْنِي مُرِيدِينَ ابتلاءه.