وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَفْسِيرُ الشَّاكِرِ وَالْكَفُورِ بِمَنْ يَكُونُ مُشْتَغِلًا بِفِعْلِ الشُّكْرِ وَفِعْلِ الْكُفْرَانِ وَإِلَّا لَمْ يَتَحَقَّقِ الْحَصْرُ، بَلِ الْمُرَادُ مِنَ الشَّاكِرِ الَّذِي يَكُونُ مُقِرًّا مُعْتَرِفًا بِوُجُوبِ شُكْرِ خَالِقِهِ عَلَيْهِ وَالْمُرَادُ مِنَ الْكُفُورِ الَّذِي لَا يُقِرُّ بِوُجُوبِ الشُّكْرِ عَلَيْهِ، إِمَّا لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الْخَالِقَ أَوْ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ يُثْبِتُهُ لَكِنَّهُ يُنْكِرُ وُجُوبَ الشُّكْرِ عَلَيْهِ، وَحِينَئِذٍ يَتَحَقَّقُ الْحَصْرُ وَهُوَ أَنَّ الْمُكَلَّفَ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ شَاكِرًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَفُورًا، وَاعْلَمْ أَنَّ الْخَوَارِجَ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْمُطِيعِ وَالْكَافِرِ، قَالُوا: لِأَنَّ الشَّاكِرَ هُوَ الْمُطِيعُ، وَالْكَفُورَ هُوَ الْكَافِرُ، وَاللَّهُ تَعَالَى نَفَى الْوَاسِطَةَ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ ذَنْبٍ كُفْرًا، وَأَنْ يَكُونَ كُلُّ مُذْنِبٍ كَافِرًا، وَاعْلَمْ أَنَّ الْبَيَانَ الَّذِي لَخَّصْنَاهُ يَدْفَعُ هَذَا الْإِشْكَالَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الشَّاكِرِ الَّذِي يَكُونُ مُشْتَغِلًا بِفِعْلِ الشُّكْرِ فَإِنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ طَرْدًا وَعَكْسًا، أَمَّا الطَّرْدُ فَلِأَنَّ الْيَهُودِيَّ قَدْ يَكُونُ شَاكِرًا لِرَبِّهِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُطِيعًا لِرَبِّهِ، وَالْفَاسِقَ قَدْ يَكُونُ شَاكِرًا لِرَبِّهِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُطِيعًا لِرَبِّهِ، وَأَمَّا الْعَكْسُ فَلِأَنَّ الْمُؤْمِنَ قَدْ لَا يَكُونُ مُشْتَغِلًا بِالشُّكْرِ وَلَا بِالْكُفْرَانِ، بَلْ يَكُونُ سَاكِنًا غَافِلًا عَنْهُمَا، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَفْسِيرُ الشَّاكِرِ بِذَلِكَ، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يُفَسَّرَ الشَّاكِرُ بِمَنْ يُقِرُّ بِوُجُوبِ الشُّكْرِ وَالْكَفُورُ بِمَنْ لَا يُقِرُّ بِذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ يَثْبُتُ الْحَصْرُ، وَيَسْقُطُ سُؤَالُهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ والله أعلم.
سورة الإنسان (76) : الآيات 4 الى 5إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالًا وَسَعِيراً.
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْفَرِيقَيْنِ أَتْبَعَهُمَا بِالْوَعِيدِ وَالْوَعْدِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الِاعْتِدَادُ هُوَ إِعْدَادُ الشَّيْءِ حَتَّى يَكُونَ عَتِيدًا حَاضِرًا مَتَى احْتِيجَ إِلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ ق: 23 وَأَمَّا السَّلَاسِلُ فَتُشَدُّ بِهَا أَرْجُلُهُمْ، وَأَمَّا الْأَغْلَالُ فَتُشَدُّ بِهَا أَيْدِيهِمْ إِلَى رِقَابِهِمْ، وَأَمَّا السَّعِيرُ فَهُوَ النَّارُ الَّتِي تُسَعَّرُ عَلَيْهِمْ فَتُوقَدُ فَيَكُونُونَ حَطَبًا لَهَا، وَهَذَا مِنْ أَغْلَظِ أَنْوَاعِ التَّرْهِيبِ وَالتَّخْوِيفِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْجَحِيمَ بِسَلَاسِلِهَا وَأَغْلَالِهَا مَخْلُوقَةٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:
أَعْتَدْنا إِخْبَارٌ عَنِ الْمَاضِي، قَالَ الْقَاضِي: إِنَّهُ لَمَّا تَوَعَّدَ بِذَلِكَ عَلَى التَّحْقِيقِ صَارَ كَأَنَّهُ مَوْجُودٌ، قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُمْ تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ فَلَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِلَّا لِضَرُورَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قُرِئَ (سلاسلا) بالتنوين، وكذلك قَوارِيرَا قَوارِيرَا الإنسان: 15، 16 وَمِنْهُمْ مَنْ يَصِلُ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، وَيَقِفُ بِالْأَلِفِ فَلِمَنْ نَوَّنَ وَصَرَفَ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَخْفَشَ قَالَ: قَدْ سَمِعْنَا مِنَ الْعَرَبِ صَرْفَ جَمِيعِ مَا لَا يَنْصَرِفُ، قَالَ: وَهَذَا لُغَةُ الشُّعَرَاءِ لِأَنَّهُمُ اضْطُرُّوا إِلَيْهِ فِي الشِّعْرِ فَصَرَفُوهُ، فَجَرَتْ أَلْسِنَتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْجُمُوعَ أَشْبَهَتِ الْآحَادَ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا صَوَاحِبَاتُ يُوسُفَ، فَلَمَّا جَمَعُوهُ جَمْعَ الْآحَادِ الْمُنْصَرِفَةِ جَعَلُوهَا فِي حُكْمِهَا فَصَرَفُوهَا، وَأَمَّا مَنْ تَرَكَ الصَّرْفَ فَإِنَّهُ جَعَلَهُ كَقَوْلِهِ: لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ الْحَجِّ: 40 وَأَمَّا إِلْحَاقُ الْأَلْفِ فِي الْوَقْفِ فَهُوَ كَإِلْحَاقِهَا في قوله: الظُّنُونَا الأحزاب: 10 والرَّسُولَا الأحزاب: 66 والسَّبِيلَا الأحزاب: 67 فيشبه ذلك بالإطلاق في القوافي.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مَا أَعَدَّ لِلشَّاكِرِينَ الْمُوَحِّدِينَ فَقَالَ: إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً الْأَبْرَارُ جَمْعُ بَرٍّ، كَالْأَرْبَابِ جَمْعُ رَبٍّ، وَالْقَوْلُ فِي حَقِيقَةِ الْبَرِّ قَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ