وَتُنْسَفُ الْجِبَالُ، وَتُسْجَرُ الْبِحَارُ وَهَذَا الْهَوْلُ عَامٌّ يَصِلُ إِلَى كُلِّ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ
الْحَجِّ: 2 وَقَالَ: يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً المزمل: 17 إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى بِفَضْلِهِ يُؤَمِّنُ أَوْلِيَاءَهُ مِنْ ذَلِكَ الْفَزَعِ وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ يَكُونُ مُسْتَطِيرًا فِي الْعُصَاةِ وَالْفُجَّارِ وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَهُمْ آمِنُونَ، كَمَا قَالَ: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ الْأَنْبِيَاءِ: 103 لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ الزُّخْرُفِ: 68 الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ فَاطِرٍ: 44 إِلَّا أَنَّ أَهْلَ الْعِقَابِ فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَهْلِ الثَّوَابِ، فَأُجْرِيَ الْغَالِبُ مَجْرَى الْكُلِّ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ الْمُسْتَطِيرِ أَنَّهُ الَّذِي يَكُونُ سَرِيعَ الْوُصُولِ إِلَى أَهْلِهِ، وَكَأَنَّ هَذَا الْقَائِلَ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الطَّيَرَانَ إِسْرَاعٌ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ قَالَ: كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً وَلَمْ يَقُلْ: وَسَيَكُونُ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا؟ الْجَوَابُ: اللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ لِلْمَاضِي، إِلَّا أَنَّهُ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا الْأَحْزَابِ: 15 وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا فِي عِلْمِ اللَّهِ وَفِي حِكْمَتِهِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى يَعْتَذِرُ وَيَقُولُ: إِيصَالُ هَذَا الضَّرَرِ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّ الْحِكْمَةَ تَقْتَضِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ نِظَامَ الْعَالَمِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَهُمَا يُوجِبَانِ الْوَفَاءَ بِهِ، لِاسْتِحَالَةِ الْكَذِبِ فِي كَلَامِي، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: كَانَ ذَلِكَ فِي الحكمة لازما، فلهذا السبب فعلته.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنْ أَعْمَالِ الْأَبْرَارِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
سورة الإنسان (76) : الآيات 8 الى 10وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10)
في قوله تعالى وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ إلى قوله وَلا شُكُوراً اعْلَمْ أَنَّ مَجَامِعَ الطَّاعَاتِ مَحْصُورَةٌ فِي أَمْرَيْنِ التَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ الإنسان: 7 وَالشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ وهاهنا مَسَائِلُ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْ أكابر المعتزلة، أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي حَقِّ عَلِيِّ بن أبي طالب عليه السلام كَأَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ وَأَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ وَأَبِي الْقَاسِمِ الْكَعْبِيِّ، وَأَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ، وَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ أَحْمَدَ فِي تَفْسِيرِهِمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي حَقِّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْوَاحِدِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا ذَكَرَ فِي كِتَابِ «الْبَسِيطِ» أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي حَقِّ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَصَاحِبُ «الْكَشَّافِ» مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ،
فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ مَرِضَا فَعَادَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُنَاسٍ مَعَهُ، فَقَالُوا: يَا أَبَا الْحَسَنِ لَوْ نَذَرْتَ عَلَى وَلَدِكَ، فَنَذَرَ عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَفِضَّةُ جَارِيَةٌ لَهُمَا، إِنْ شَفَاهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَصُومُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَشُفِيَا وَمَا مَعَهُمْ شَيْءٌ فَاسْتَقْرَضَ عَلِيٌّ مِنْ شَمْعُونَ الْخَيْبَرِيِّ الْيَهُودِيِّ ثَلَاثَةَ أَصْوُعٍ مِنْ شَعِيرٍ فَطَحَنَتْ فَاطِمَةُ صَاعًا وَاخْتَبَزَتْ خَمْسَةَ أَقْرَاصٍ عَلَى عَدَدِهِمْ وَوَضَعُوهَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ لِيُفْطِرُوا، فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ سَائِلٌ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ بَيْتِ مُحَمَّدٍ، مِسْكِينٌ مِنْ مَسَاكِينِ الْمُسْلِمِينَ أَطْعِمُونِي أَطْعَمَكُمُ اللَّهُ مِنْ مَوَائِدِ الْجَنَّةِ فَآثَرُوهُ وَبَاتُوا وَلَمْ يَذُوقُوا إِلَّا الْمَاءَ وَأَصْبَحُوا صَائِمِينَ، فَلَمَّا أَمْسَوْا وَوَضَعُوا الطَّعَامَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَقَفَ عَلَيْهِمْ يَتِيمٌ فَآثَرُوهُ وَجَاءَهُمْ أَسِيرٌ فِي الثَّالِثَةِ، فَفَعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ فَلَمَّا أَصْبَحُوا أَخَذَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِيَدِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ وَدَخَلُوا عَلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فلما أبصرهم