وَلِنَرْجِعْ إِلَى التَّفْسِيرِ فَنَقُولُ: أَمَّا تِلْكَ الْمُقَدِّمَةُ فَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَثْبِيتُ الرَّسُولِ وَشَرْحُ صَدْرِهِ فِيمَا نَسَبُوهُ إِلَيْهِ مِنْ كِهَانَةٍ وَسِحْرٍ، فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ، فَلَا جَرَمَ بَالَغَ وَكَرَّرَ الضَّمِيرَ بَعْدَ إِيقَاعِهِ اسْمًا، لِأَنَّ تَأْكِيدًا عَلَى تَأْكِيدٍ أَبْلَغُ، كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ يَقُولُونَ: إِنَّ ذَلِكَ كِهَانَةٌ، فَأَنَا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ أَقُولُ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ إِنَّ ذَلِكَ وَحْيٌ حَقٌّ وَتَنْزِيلٌ صِدْقٌ مِنْ عِنْدِي، وَهَذَا فِيهِ فَائِدَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: إِزَالَةُ الْوَحْشَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِ طَعْنِ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ، فَإِنَّ بَعْضَ الْجُهَّالِ وَإِنْ طَعَنُوا فيه إلا أن جبار السموات عَظَّمَهُ وَصَدَّقَهُ.
وَالثَّانِيَةُ: تَقْوِيَتُهُ عَلَى تَحَمُّلِ التَّكْلِيفِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُبَالِغُونَ فِي إِيذَائِهِ، وَهُوَ كَانَ يُرِيدُ مُقَاتَلَتَهُمْ فَلَمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ الْإِيذَاءِ وَتَرْكِ الْمُقَاتَلَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ شَاقًّا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: إِنِّي مَا نَزَّلْتُ عَلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ مُفَرَّقًا مُنَجَّمًا إِلَّا لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ تَقْتَضِي تَخْصِيصَ كُلِّ شَيْءٍ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ، وَلَقَدِ اقْتَضَتْ تِلْكَ الْحِكْمَةُ تَأْخِيرَ الْإِذْنِ فِي الْقِتَالِ، فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ الصَّادِرِ عَنِ الْحِكْمَةِ الْمَحْضَةِ الْمُبَرَّأِ عَنِ الْعَيْبِ وَالْعَبَثِ وَالْبَاطِلِ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَدَّمَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ ذَكَرَ النَّهْيَ فَقَالَ تعالى:
سورة الإنسان (76) : آية 24فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24)
فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فِي تَأْخِيرِ الْإِذْنِ فِي الْقِتَالِ وَنَظِيرُهُ فَاصْبِرُوا حَتَّى/ يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ الْأَعْرَافِ: 87 أَوْ يَكُونَ الْمَعْنَى عَامًّا فِي جَمِيعِ التَّكَالِيفِ، أَيْ فَاصْبِرْ فِي كُلِّ مَا حَكَمَ بِهِ رَبُّكَ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ تَكْلِيفًا خَاصًّا بِكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ أَوْ مُتَعَلِّقًا بِالْغَيْرِ وَهُوَ التَّبْلِيغُ وَأَدَاءُ الرِّسَالَةِ، وَتَحَمُّلُ الْمَشَاقِّ النَّاشِئَةِ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ فِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ دَخَلَ فِيهِ أن لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً فَكَانَ ذِكْرُهُ بَعْدَ هَذَا تَكْرِيرًا. الْجَوَابُ: الْأَوَّلُ أَمْرٌ بِالْمَأْمُورَاتِ، وَالثَّانِي نَهْيٌ عَنِ الْمَنْهِيَّاتِ وَدَلَالَةُ أَحَدِهِمَا عَلَى الآخرة بِالِالْتِزَامِ لَا بِالتَّصْرِيحِ فَيَكُونُ التَّصْرِيحُ بِهِ مُفِيدًا.
السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ يُطِيعُ أَحَدًا مِنْهُمْ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي هَذَا النَّهْيِ؟ الْجَوَابُ: الْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّ النَّاسَ مُحْتَاجُونَ إِلَى مُوَاصَلَةِ التَّنْبِيهِ وَالْإِرْشَادِ، لِأَجْلِ مَا تَرَكَّبَ فِيهِمْ مِنَ الشَّهَوَاتِ الدَّاعِيَةِ إِلَى الْفَسَادِ، وَأَنَّ أَحَدًا لَوِ اسْتَغْنَى عَنْ تَوْفِيقِ اللَّهِ وَإِمْدَادِهِ وَإِرْشَادِهِ، لَكَانَ أَحَقُّ النَّاسِ بِهِ هُوَ الرَّسُولَ الْمَعْصُومَ، وَمَتَى ظَهَرَ ذَلِكَ عَرَفَ كُلُّ مُسْلِمٍ، لأنه لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الرَّغْبَةِ إِلَى اللَّهِ والتضرع إليه في أنه يَصُونَهُ عَنِ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْآثِمِ وَالْكَفُورِ؟ الْجَوَابُ: الْآثِمُ هُوَ الْمُقْدِمُ عَلَى الْمَعَاصِي أَيَّ مَعْصِيَةٍ كَانَتْ، وَالْكَفُورُ هو الجاحد للنعمة، فكل كفور آثم، أما ليس كُلُّ آثِمٍ كَفُورًا، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْآثِمَ عَامٌّ فِي الْمَعَاصِي كُلِّهَا لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً النِّسَاءِ: 48 فَسَمَّى الشِّرْكَ إِثْمًا، وَقَالَ: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ الْبَقَرَةِ: 283 وَقَالَ: وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ الْأَنْعَامِ: 120 وَقَالَ: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ الْبَقَرَةِ: 219 فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى أَنَّ هَذَا الإثم