سورة النبإ (78) : آية 8وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8)
وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى كَمَا قَالَ: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى النَّجْمِ: 45 ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ كُلُّ زَوْجَيْنِ وَ كُلُّ مُتَقَابِلَيْنِ مِنَ الْقَبِيحِ وَالْحَسَنِ وَالطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ وَجَمِيعُ الْمُتَقَابِلَاتِ وَالْأَضْدَادِ، كَمَا قَالَ: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ الذَّارِيَاتِ: 49 وَهَذَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَنِهَايَةِ الْحِكْمَةِ حَتَّى يَصِحَّ الِابْتِلَاءُ وَالِامْتِحَانُ، فَيَتَعَبَّدَ الْفَاضِلُ بِالشُّكْرِ وَالْمَفْضُولُ بِالصَّبْرِ وَيُتَعَرَّفَ حَقِيقَةُ كُلِّ شَيْءٍ بِضِدِّهِ، فَالْإِنْسَانُ إِنَّمَا يَعْرِفُ قَدْرَ الشَّبَابِ عِنْدَ الشَّيْبِ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُ قَدْرَ الْأَمْنِ عِنْدَ الْخَوْفِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي تَعْرِيفِ النِّعَمِ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ تعالى:
سورة النبإ (78) : آية 9وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9)
طَعَنَ بَعْضُ الْمَلَاحِدَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: السُّبَاتُ هُوَ النَّوْمُ، وَالْمَعْنَى: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ نَوْمًا، وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ ذَكَرُوا فِي التَّأْوِيلِ وُجُوهًا أَوَّلُهَا: قَالَ الزَّجَّاجُ: سُباتاً مَوْتًا وَالْمَسْبُوتُ الْمَيِّتُ مِنَ السَّبْتِ وَهُوَ الْقَطْعُ لأنه مقطوع عن الحركة ودليله أمران أحداهما: قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ الْأَنْعَامِ: 60 وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ النَّوْمَ مَوْتًا جَعَلَ الْيَقَظَةَ مَعَاشًا، أَيْ حَيَاةً فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً النبأ: 11 وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ جَلَائِلُ النِّعَمِ، فَلَا يَلِيقُ الْمَوْتُ بِهَذَا الْمَكَانِ وَأَيْضًا لَيْسَ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِ مَوْتًا، أَنَّ الرُّوحَ انْقَطَعَ عَنِ الْبَدَنِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ انْقِطَاعُ أَثَرِ الْحَوَاسِّ الظَّاهِرَةِ، وَهَذَا هُوَ النَّوْمُ، وَيَصِيرُ حَاصِلُ الْكَلَامِ إِلَى: إِنَّا جَعَلْنَا نَوْمَكُمْ نَوْمًا وَثَانِيهَا: قَالَ اللَّيْثُ: السُّبَاتُ النَّوْمُ شِبْهُ الْغَشْيِ يُقَالُ سُبِتَ. الْمَرِيضُ فَهُوَ مَسْبُوتٌ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: السُّبَاتُ الْغَشْيَةُ الَّتِي تَغْشَى الْإِنْسَانَ شِبْهَ الْمَوْتِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْغَشْيَ هَاهُنَا إِنْ كَانَ النَّوْمَ فَيَعُودُ الْإِشْكَالُ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالسُّبَاتِ شِدَّةَ ذَلِكَ الْغَشْيِ فَهُوَ. بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ نَوْمٍ كَذَلِكَ وَلِأَنَّهُ مَرَضٌ فَلَا يُمْكِنُ ذِكْرُهُ فِي أَثْنَاءِ تَعْدِيدِ النِّعَمِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ السَّبْتَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ هُوَ الْقَطْعُ يُقَالُ سَبَتَ الرَّجُلُ رَأْسَهُ يَسْبُتُهُ سَبْتًا إِذَا حَلَقَ شَعْرَهُ، وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ فِي قَوْلِهِ:
سُباتاً أَيْ قَطْعًا/ ثُمَّ عِنْدَ هَذَا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ نَوْمًا مُتَقَطِّعًا لَا دَائِمًا، فَإِنَّ النَّوْمَ بِمِقْدَارِ الْحَاجَةِ مِنْ أَنْفَعِ الْأَشْيَاءِ. أَمَّا دَوَامُهُ فَمِنْ أَضَرِّ الْأَشْيَاءِ، فَلَمَّا كَانَ انْقِطَاعُهُ نِعْمَةً عَظِيمَةً لَا جَرَمَ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَعْرِضِ الْإِنْعَامِ الثَّانِي. أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَعِبَ ثُمَّ نَامَ، فَذَلِكَ النَّوْمُ يُزِيلُ عَنْهُ ذَلِكَ التَّعَبَ، فَسُمِّيَتْ تِلْكَ الْإِزَالَةُ سَبْتًا وَقَطْعًا، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ قُتَيْبَةَ: وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً أَيْ رَاحَةً، وَلَيْسَ غَرَضُهُ مِنْهُ أَنَّ السُّبَاتَ اسْمٌ لِلرَّاحَةِ، بَلِ الْمَقْصُودُ أَنَّ النَّوْمَ يَقْطَعُ التَّعَبَ وَيُزِيلُهُ، فَحِينَئِذٍ تَحْصُلُ الرَّاحَةُ الثَّالِثُ:
قَالَ الْمُبَرِّدُ: وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً أَيْ جَعَلْنَاهُ نَوْمًا خَفِيفًا يُمْكِنُكُمْ دَفْعُهُ وَقَطْعُهُ، تَقُولُ الْعَرَبُ: رَجُلٌ مَسْبُوتٌ إِذَا كَانَ النَّوْمُ يُغَالِبُهُ وَهُوَ يُدَافِعُهُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ نَوْمًا لَطِيفًا يُمْكِنُكُمْ دَفْعُهُ، وَمَا جَعَلْنَاهُ غَشْيًا مُسْتَوْلِيًا عَلَيْكُمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْرَاضِ الشَّدِيدَةِ، وَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ. وخامسها: قوله تعالى:
سورة النبإ (78) : آية 10وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10)
قَالَ الْقَفَّالُ: أَصْلُ اللِّبَاسِ هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يَلْبَسُهُ الْإِنْسَانُ وَيَتَغَطَّى بِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مُغَطِّيًا لَهُ، فَلَمَّا كَانَ