وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَلِيقُ بِذَلِكَ الْقَائِلِ أَنْ يَقُولَ: فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً بَلْ هَذَا الْكَلَامُ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِاللَّهِ، وَالْأَقْرَبُ فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ قَوْلُهُ: وَلا يُكَلِّمُهُمُ أَيْ وَلَا يُكَلِّمُهُمْ بِالْكَلَامِ الطَّيِّبِ النَّافِعِ، فَإِنَّ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ غَيْرُ بَعِيدٍ لَا سِيَّمَا عِنْدَ حُصُولِ الْقَرِينَةِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَلا يُكَلِّمُهُمُ إِنَّمَا ذَكَرَهُ لِبَيَانِ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يُقِيمُ لَهُمْ وَزْنًا، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مِنَ الْكَلَامِ الطَّيِّبِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَزِيدُ فِي عَذَابِ الْكَافِرِ أَبَدًا، فَتِلْكَ الزِّيَادَةُ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا كَانَتْ مُسْتَحَقَّةً لَهُمْ أَوْ غَيْرَ مُسْتَحَقَّةٍ، فَإِنْ كَانَتْ مُسْتَحَقَّةً لَهُمْ كَانَ تَرْكُهَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ إِحْسَانًا، وَالْكَرِيمُ إِذَا أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَلِيقُ به أن يسترجعه بعد ذلك، وأما إن كَانَتْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ غَيْرَ مُسْتَحَقَّةٍ كَانَ إِيصَالُهَا إِلَيْهِمْ ظُلْمًا وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ الْجَوَابُ: كَمَا أَنَّ الشَّيْءَ يُؤَثِّرُ بِحَسَبِ خَاصِّيَّةِ ذَاتِهِ، فَكَذَا إِذَا دَامَ ازْدَادَ تَأْثِيرُهُ بِحَسَبِ ذَلِكَ الدَّوَامِ، فَلَا جَرَمَ كُلَّمَا كَانَ الدَّوَامُ أَكْثَرَ كَانَ الْإِيلَامُ أَكْثَرَ، وَأَيْضًا فَتِلْكَ الزِّيَادَةُ مُسْتَحَقَّةٌ، وَتَرْكُهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لَا يُوجِبُ الإبراء والإسقاط، والله علم بِمَا أَرَادَ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ وَعِيدَ الْكُفَّارِ أَتْبَعَهُ بِوَعْدِ الْأَخْيَارِ وَهُوَ أُمُورٌ:
أولها: قوله تعالى:
سورة النبإ (78) : آية 31إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31)
أَمَّا الْمُتَّقِي فَقَدْ تَقَدَّمَ تفسيره في مواضع كثيرة ومَفازاً يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا بِمَعْنَى فَوْزًا وَظَفَرًا بِالْبُغْيَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعَ فَوْزٍ وَالْفَوْزُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ فَوْزًا بِالْمَطْلُوبِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ فَوْزًا بِالنَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَجْمُوعَ الْأَمْرَيْنِ، وَعِنْدِي أَنَّ تَفْسِيرَهُ بِالْفَوْزِ بِالْمَطْلُوبِ أَوْلَى مِنْ تَفْسِيرِهِ بِالْفَوْزِ بِالنَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ، وَمِنْ تَفْسِيرِهِ بِالْفَوْزِ بِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ أَعْنِي النَّجَاةَ مِنَ الْهَلَاكِ وَالْوُصُولَ إِلَى الْمَطْلُوبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى فَسَّرَ الْمَفَازَ بما بعده وهو قوله: حَدائِقَ وَأَعْناباً النبأ: 32 فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْمَفَازِ هَذَا الْقَدْرُ. فَإِنْ قِيلَ الْخَلَاصُ مِنَ الْهَلَاكِ أَهَمُّ مِنْ حُصُولِ اللَّذَّةِ، فَلِمَ أُهْمِلَ الْأَهَمُّ وَذُكِرَ غَيْرُ الْأَهَمِّ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الْخَلَاصَ مِنَ الْهَلَاكِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْفَوْزَ بِاللَّذَّةِ وَالْخَيْرِ، أَمَّا الْفَوْزُ بِاللَّذَّةِ وَالْخَيْرِ فَيَسْتَلْزِمُ الْخَلَاصَ مِنَ الْهَلَاكِ، فَكَانَ ذكر هذا أولى.
وثانيها: قوله تعالى:
سورة النبإ (78) : آية 32حَدائِقَ وَأَعْناباً (32)
وَالْحَدَائِقُ جَمْعُ حَدِيقَةٍ، وَهِيَ بُسْتَانٌ مَحُوطٌ عَلَيْهِ. مِنْ قَوْلِهِمْ: أَحْدَقُوا بِهِ أَيْ أَحَاطُوا بِهِ، وَالتَّنْكِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَأَعْناباً يَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ حَالِ تِلْكَ الْأَعْنَابِ.
وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تعالى:
سورة النبإ (78) : آية 33وَكَواعِبَ أَتْراباً (33)
كَوَاعِبُ جَمْعُ كَاعِبٍ وَهِيَ النَّوَاهِدُ الَّتِي تَكَعَّبَتْ ثُدِيُّهُنَّ وَتَفَلَّكَتْ أَيْ يَكُونُ الثَّدْيُ فِي النُّتُوءِ كَالْكَعْبِ وَالْفَلْكَةِ.