مِنْ قَوْلِهِمْ: ثَوْرٌ نَاشِطٌ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَهِيَ سَابِحَاتٌ لِأَنَّهَا تَسْبَحُ فِي جَرْيِهَا وَهِيَ سَابِقَاتٌ، لِأَنَّهَا تَسْبِقُ إِلَى الْغَايَةِ، وَهِيَ مُدَبِّرَاتٌ لِأَمْرِ الْغَلَبَةِ وَالظَّفَرِ، وَإِسْنَادُ التَّدْبِيرِ إِلَيْهَا مَجَازٌ لِأَنَّهَا مِنْ أَسْبَابِهِ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي مُسْلِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أن هذه صفاة الْغُزَاةِ فَالنَّازِعَاتُ أَيْدِي الْغُزَاةِ يُقَالُ: لِلرَّامِي نَزَعَ فِي قَوْسِهِ، وَيُقَالُ: أَغْرَقَ فِي النَّزْعِ إِذَا اسْتَوْفَى مَدَّ الْقَوْسِ، وَالنَّاشِطَاتُ السِّهَامُ وَهِيَ خُرُوجُهَا عَنْ أَيْدِي الرُّمَاةِ وَنُفُوذُهَا، وَكُلُّ شَيْءٍ حَلَلْتَهُ فَقَدْ نَشَّطْتَهُ، وَمِنْهُ نَشَاطُ الرَّجُلِ وَهُوَ انْبِسَاطُهُ وَخِفَّتُهُ، وَالسَّابِحَاتُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْخَيْلُ وَسَبْحُهَا الْعَدْوُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعْنِيَ بِهِ الْإِبِلَ أَيْضًا، وَالْمُدَبِّرَاتُ مِثْلُ الْمُعَقِّبَاتِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَأْتِي فِي أَدْبَارِ هَذَا الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ نَزْعُ السِّهَامِ وَسَبْحُ الْخَيْلِ وَسَبْقُهَا الْأَمْرُ الَّذِي هُوَ النَّصْرُ، وَلَفْظُ التَّأْنِيثِ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ جَمَاعَاتٌ، كَمَا قِيلَ: الْمُدَبِّرَاتُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْآلَةَ مِنَ الْقَوْسِ وَالْأَوْهَاقِ، عَلَى مَعْنَى الْمَنْزُوعِ فِيهَا وَالْمَنْشُوطِ بِهَا.
الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّهُ يُمْكِنُ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ بِالْمَرَاتِبِ الْوَاقِعَةِ فِي رُجُوعِ الْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى اللَّهِ ف النَّازِعاتِ غَرْقاً هِيَ الْأَرْوَاحُ الَّتِي تَنْزِعُ إِلَى اعْتِلَاقِ الْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، أَوِ الْمَنْزُوعَةُ عَنْ مَحَبَّةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى:
وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً هِيَ أَنَّهَا بَعْدَ الرُّجُوعِ عَنِ الْجُسْمَانِيَّاتِ تَأْخُذُ فِي الْمُجَاهَدَةِ، وَالتَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِنَشَاطٍ تَامٍّ، وَقُوَّةٍ قَوِيَّةٍ: وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً ثُمَّ إِنَّهَا بَعْدَ الْمُجَاهَدَةِ تَسْرَحُ فِي أَمْرِ الْمَلَكُوتِ فَتَقْطَعُ فِي تِلْكَ الْبِحَارِ فَتَسْبَحُ فِيهَا: فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً إِشَارَةٌ إِلَى تَفَاوُتِ الْأَرْوَاحِ فِي دَرَجَاتِ سَيْرِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى:
فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ آخِرَ مَرَاتِبِ/ الْبَشَرِيَّةِ مُتَّصِلَةٌ بِأَوَّلِ دَرَجَاتِ الْمَلَكِيَّةِ، فَلَمَّا انْتَهَتِ الْأَرْوَاحُ الْبَشَرِيَّةُ إِلَى أَقْصَى غَايَاتِهَا وَهِيَ مَرْتَبَةُ السَّبْقِ اتَّصَلَتْ بِعَالَمِ الْمَلَائِكَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً فَالْأَرْبَعَةُ الْأُوَلُ هِيَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ النُّورِ: 35 والخامسة: هِيَ النَّارُ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ النُّورِ: 35 .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْوُجُوهَ الْمَنْقُولَةَ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ غَيْرُ مَنْقُولَةٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصًّا، حَتَّى لَا يُمْكِنَ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا، بَلْ إِنَّمَا ذَكَرُوهَا لِكَوْنِ اللَّفْظِ مُحْتَمِلًا لَهَا، فَإِذَا كَانَ احْتِمَالُ اللَّفْظِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ لَيْسَ دُونَ احْتِمَالِهِ لِلْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرُوهَا لَمْ يَكُنْ مَا ذَكَرُوهُ أَوْلَى مِمَّا ذَكَرْنَاهُ إِلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ هَاهُنَا مِنْ دَقِيقَةٍ، وَهُوَ أَنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمَلٌ لِلْكُلِّ، فَإِنْ وَجَدْنَا بَيْنَ هَذِهِ الْمَعَانِي مَفْهُومًا وَاحِدًا مُشْتَرَكًا حَمَلْنَا اللَّفْظَ عَلَى ذَلِكَ الْمُشْتَرَكِ: وَحِينَئِذٍ يَنْدَرِجُ تَحْتَهُ جَمِيعُ هَذِهِ الْوُجُوهِ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ هَذِهِ الْمَفْهُومَاتِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ تَعَذَّرَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْكُلِّ، لِأَنَّ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ لِإِفَادَةِ مَفْهُومَيْهِ مَعًا، فَحِينَئِذٍ لَا نَقُولُ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى هَذَا، بَلْ نَقُولُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ الْمُرَادَ، أَمَّا الْجَزْمُ فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ هَاهُنَا.
الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: وهو أن لا تكون الْأَلْفَاظُ الْخَمْسَةُ صِفَاتٍ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ، بَلْ لِأَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةٍ، فَفِيهِ أَيْضًا وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: النَّازِعَاتُ غَرْقًا، هِيَ: الْقِسِيُّ، وَالنَّاشِطَاتُ نَشْطًا هِيَ الْأَوْهَاقُ، وَالسَّابِحَاتُ السُّفُنُ، وَالسَّابِقَاتُ الْخَيْلُ، وَالْمُدَبِّرَاتُ الْمَلَائِكَةُ، رَوَاهُ وَاصِلُ بْنُ السَّائِبِ: عَنْ عَطَاءٍ الثَّانِي: نُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ: فِي النَّازِعَاتِ، وَالنَّاشِطَاتِ، وَالسَّابِحَاتِ أَنَّهَا الْمَوْتُ، وَفِي السَّابِقَاتِ، وَالْمُدَبِّرَاتِ أَنَّهَا الْمَلَائِكَةُ، وَإِضَافَةُ النَّزْعِ، وَالنَّشْطِ، وَالسَّبْحِ إِلَى الْمَوْتِ مَجَازٌ بِمَعْنَى أَنَّهَا حَصَلَتْ عِنْدَ حُصُولِهِ الثَّالِثُ: قَالَ قَتَادَةُ: الْجَمِيعُ هِيَ النُّجُومُ إِلَّا الْمُدَبِّرَاتِ، فَإِنَّهَا هِيَ الْمَلَائِكَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ فَالسَّابِقَاتِ بِالْفَاءِ، وَالَّتِي قَبْلَهَا بِالْوَاوِ، وَفِي عِلَّتِهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ صَاحِبُ «الكشاف» : إن هذه مسيبة عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَاللَّاتِي سَبَحْنَ، فَسَبَقْنَ كَمَا تَقُولُ: قَامَ فَذَهَبَ أَوْجَبَ الْفَاءُ