وَمِنْهُ دُحِيَتِ الْأَرْضُ»
وَاعْلَمْ أَنَّ الرُّجُوعَ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِلَى كُتُبِ الْحَدِيثِ أَوْلَى.
سورة النازعات (79) : آية 31أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31)
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَاؤُهَا عُيُونُهَا الْمُتَفَجِّرَةُ بِالْمَاءِ وَمَرْعَاهَا رَعْيُهَا، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَوْضِعُ الرَّعْيِ، وَنَصْبُ الْأَرْضِ وَالْجِبَالِ بِإِضْمَارِ دَحَا وَأَرْسَى عَلَى شَرِيطَةِ التَّفْسِيرِ، وَقَرَأَهُمَا الْحَسَنُ مَرْفُوعَيْنِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، فَإِنْ قِيلَ:
هَلَّا أَدْخَلَ حَرْفَ الْعَطْفِ عَلَى أَخْرَجَ قُلْنَا لِوَجْهَيْنِ؟ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مَعْنَى دَحَاهَا بَسَطَهَا وَمَهَّدَهَا لِلسُّكْنَى، ثُمَّ فَسَّرَ التَّمْهِيدَ بِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي تَأَتِّي سُكْنَاهَا مِنْ تَسْوِيَةِ أَمْرِ الْمَشَارِبِ وَالْمَآكِلِ وَإِمْكَانِ الْقَرَارِ عَلَيْهَا بِإِخْرَاجِ الْمَاءِ وَالْمَرْعَى وَإِرْسَاءِ الْجِبَالِ وَإِثْبَاتِهَا أَوْتَادًا لَهَا حَتَّى تَسْتَقِرَّ وَيُسْتَقَرَّ عَلَيْهَا وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَخْرَجَ حَالًا، وَالتَّقْدِيرُ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا حَالَ مَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَرَادَ بِمَرْعَاهَا مَا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ فِي النَّحْلِ: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ النَّحْلِ: 10 وَقَالَ فِي سُورَةٍ أُخْرَى: أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا إلى قوله: مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ عبس: 25- 32 فَكَذَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَاسْتُعِيرَ الرَّعْيُ لِلْإِنْسَانِ كَمَا اسْتُعِيرَ الرَّتْعُ فِي قَوْلِهِ: يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ يُوسُفَ: 12 وَقُرِئَ نَرْتَعْ مِنَ الرَّعْيِ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ قَالَ تَعَالَى:
وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ الْأَنْبِيَاءِ: 30 فَانْظُرْ كَيْفَ دَلَّ بِقَوْلِهِ: ماءَها وَمَرْعاها عَلَى جَمِيعِ مَا أَخْرَجَهُ مِنَ الْأَرْضِ قُوتًا وَمَتَاعًا لِلْأَنَامِ مِنَ الْعُشْبِ وَالشَّجَرِ، وَالْحَبِّ وَالثَّمَرِ وَالْعَصْفِ وَالْحَطَبِ، وَاللِّبَاسِ وَالدَّوَاءِ حَتَّى النَّارِ وَالْمِلْحِ، أَمَّا النَّارُ فَلَا شَكَّ أَنَّهَا مِنَ الْعِيدَانِ قَالَ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ الْوَاقِعَةِ: 71، 72 وَأَمَّا الْمِلْحُ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنَ الْمَاءِ، وَأَنْتَ إِذَا تَأَمَّلْتَ عَلِمْتَ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَتَنَزَّهُ بِهِ النَّاسُ فِي الدُّنْيَا وَيَتَلَذَّذُونَ بِهِ، فَأَصْلُهُ الْمَاءُ وَالنَّبَاتُ، وَلِهَذَا السَّبَبِ تَرَدَّدَ فِي وَصْفِ الْجَنَّةِ ذِكْرُهُمَا، فَقَالَ: جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ البقرة: 25 ثُمَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ بِالْمَرْعَى كُلَّ مَا يَأْكُلُهُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ قَوْلُهُ فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ: مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ النازعات: 33 .
سورة النازعات (79) : الآيات 32 الى 33وَالْجِبالَ أَرْساها (32) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33)
الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْجِبالَ أَرْساها وَالْكَلَامُ فِي شَرْحِ مَنَافِعِ الْجِبَالِ قَدْ تَقَدَّمَ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ خَلْقِهِ الْأَرْضَ وَكَمِّيَّةَ مَنَافِعِهَا قَالَ: مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ وَالْمَعْنَى أَنَّا إِنَّمَا خَلَقْنَا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُتْعَةً وَمَنْفَعَةً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ، وَاحْتَجَّ بِهِ مَنْ قَالَ: أَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ وَأَحْكَامَهُ مُعَلَّلَةٌ بِالْأَغْرَاضِ وَالْمَصَالِحِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ قَدْ مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ كَيْفِيَّةَ خَلْقِهِ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ لِيُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، فَلَمَّا قَرَّرَ ذَلِكَ وَبَيَّنَ إِمْكَانَ الْحَشْرِ عَقْلًا أَخْبَرَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ وقوعه. فقال تعالى:
سورة النازعات (79) : آية 34فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34)