وَفِي قَوْلِهِ: يُغْنِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: يُغْنِيهِ أَيْ يَصْرِفُهُ وَيَصُدُّهُ عَنْ قَرَابَتِهِ وَأَنْشَدَ:
سَيُغْنِيكَ حَرْبُ بَنِي مَالِكٍ
... عَنِ الْفُحْشِ وَالْجَهْلِ فِي الْمَحْفِلِ
أَيْ سَيَشْغَلُكَ، وَيُقَالُ أَغْنِ عَنِّي وَجْهَكَ أَيِ اصْرِفْهُ الثَّانِي: قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: يُغْنِيهِ أَيْ ذَلِكَ الْهَمُّ الَّذِي بِسَبَبِ خَاصَّةِ نَفْسِهِ قَدْ مَلَأَ صَدْرَهُ، فَلَمْ يَبْقَ فيه متسع لهم آخر، فصارت شَبِيهًا بِالْغَنِيِّ فِي أَنَّهُ حَصَلَ عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَمْلُوكِ شَيْءٌ كَثِيرٌ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حَالَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي الْهَوْلِ، بَيَّنَ أَنَّ الْمُكَلَّفِينَ فِيهِ عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْهُمُ السُّعَدَاءُ، وَمِنْهُمُ الْأَشْقِيَاءُ فَوَصَفَ السُّعَدَاءَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
سورة عبس (80) : الآيات 38 الى 39وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39)
مُسْفِرَةٌ مُضِيئَةٌ مُتَهَلِّلَةٌ، مِنْ أَسْفَرَ الصُّبْحُ إِذَا أَضَاءَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ لِمَا رُوِيَ مَنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ بِاللَّيْلِ، حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ، وَعَنِ الضَّحَّاكِ، مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ، وَقِيلَ: مِنْ طُولِ مَا اغْبَرَّتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَعِنْدِي أَنَّهُ بِسَبَبِ الْخَلَاصِ مِنْ عَلَائِقِ الدُّنْيَا وَالِاتِّصَالِ بِعَالَمِ الْقُدْسِ وَمَنَازِلِ الرِّضْوَانِ وَالرَّحْمَةِ ضَاحِكَةٌ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي بِالْفَرَاغِ مِنَ الْحِسَابِ مُسْتَبْشِرَةٌ فَرِحَةٌ بِمَا نَالَتْ مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ وَرِضَاهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: مُسْفِرَةٌ إِشَارَةٌ إِلَى الْخَلَاصِ عَنْ هَذَا الْعَالَمِ وَتَبِعَاتِهِ/ وَأَمَّا الضَّاحِكَةُ وَالْمُسْتَبْشِرَةُ، فَهُمَا مَحْمُولَتَانِ عَلَى الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ، أَوْ عَلَى وجدان المنفعة ووجدان التعظيم.
سورة عبس (80) : الآيات 40 الى 42وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
قَالَ الْمُبَرِّدُ: الْغَبَرَةُ مَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ مِنَ الْغُبَارِ، وَقَوْلُهُ: تَرْهَقُها أَيْ تُدْرِكُهَا عَنْ قُرْبٍ، كَقَوْلِكَ رَهِقْتُ الْجَبَلَ إِذَا لَحِقْتُهُ بِسُرْعَةٍ، وَالرَّهَقُ عَجَلَةُ الْهَلَاكِ، وَالْقَتَرَةُ سَوَادٌ كَالدُّخَانِ، وَلَا يُرَى أَوْحَشُ مِنَ اجْتِمَاعِ الْغَبَرَةِ وَالسَّوَادِ فِي الْوَجْهِ، كَمَا تَرَى وُجُوهَ الزُّنُوجِ إِذَا اغْبَرَّتْ، وَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَمَعَ فِي وُجُوهِهِمْ بَيْنَ السَّوَادِ وَالْغَبَرَةِ، كَمَا جَمَعُوا بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْفُجُورِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرْجِئَةَ وَالْخَوَارِجَ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، أَمَّا الْمُرْجِئَةُ فَقَالُوا: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْقِيَامَةِ قِسْمَانِ: أَهْلُ الثَّوَابِ، وَأَهْلُ الْعِقَابِ، وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ أَهِلَ الْعِقَابِ هُمُ الْكَفَرَةُ، وَثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ الْفُسَّاقَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ لَيْسُوا بِكَفَرَةٍ، وَإِذَا لَمْ يَكُونُوا مِنَ الْكَفَرَةِ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الثَّوَابِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ لَيْسَ لَهُ عِقَابٌ، وَأَمَّا الْخَوَارِجُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: دَلَّتْ سَائِرُ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ يُعَاقَبُ، وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ يُعَاقَبُ فَإِنَّهُ كَافِرٌ، فَيَلْزَمُ أَنَّ كُلَّ مُذْنِبٍ فَإِنَّهُ كَافِرٌ وَالْجَوَابُ: أَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الْمَذْكُورَ هَاهُنَا هُوَ هَذَا الْفَرِيقَانِ، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي نَفْيَ الْفَرِيقِ الثَّالِثِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَاتُهُ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ محمد النبي وآله وصحبه أجمعين.