الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْبَحْثِ عَنْهُ بِحَسَبِ اللُّغَةِ فَنَقُولُ: ذَكَرَ أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّهُ فِي الْأَصْلِ عِبَارَةٌ عَمَّا لَطُفَ وَخَفِيَ سَبَبُهُ وَالسَّحْرُ بِالنَّصْبِ هُوَ الْغِذَاءُ لِخَفَائِهِ وَلُطْفِ مَجَارِيهِ، قَالَ لَبِيَدٌ:
وَنَسْحَرُ بِالطَّعَامِ وَبِالشَّرَابِ قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أنا نعلل ونخذع كَالْمَسْحُورِ الْمَخْدُوعِ، وَالْآخَرُ: نُغَذَّى وَأَيُّ الْوَجْهَيْنِ كَانَ فَمَعْنَاهُ الْخَفَاءُ وَقَالَ:
فَإِنْ تَسْأَلِينَا فِيمَ نَحْنُ فَإِنَّنَا
... عَصَافِيرُ مِنْ هَذَا الْأَنَامِ الْمُسَحَّرِ
وَهَذَا الْبَيْتُ يَحْتَمِلُ مِنَ الْمَعْنَى مَا احْتَمَلَهُ الْأَوَّلُ، وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ يُرِيدَ بِالْمُسَحَّرِ أَنَّهُ ذُو سَحْرٍ، وَالسَّحْرُ هُوَ الرِّئَةُ، وَمَا تَعَلَّقَ بِالْحُلْقُومِ وَهَذَا أَيْضًا يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الْخَفَاءِ وَمِنْهُ قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي» ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ الشُّعَرَاءِ: 153 ، يَعْنِي مِنَ الْمَخْلُوقِينَ الَّذِي يَطْعَمُ وَيَشْرَبُ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ: مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا الشُّعَرَاءِ: 154 وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ ذُو سَحْرٍ مِثْلُنَا، وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ لِلسَّحَرَةِ: مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ يُونُسَ: 81 وَقَالَ: فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ الْأَعْرَافِ: 116 فَهَذَا هُوَ مَعْنَى السِّحْرِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ السِّحْرِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ مُخْتَصٌّ بِكُلِّ أَمْرٍ يَخْفَى سَبَبُهُ وَيُتَخَيَّلُ عَلَى غَيْرِ حَقِيقَتِهِ وَيَجْرِي مَجْرَى التَّمْوِيهِ وَالْخِدَاعِ، وَمَتَى أُطْلِقَ وَلَمْ يُقَيَّدْ أَفَادَ ذَمَّ فَاعِلِهِ. قَالَ تعالى: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ الأعراف: 116 يَعْنِي مَوَّهُوا عَلَيْهِمْ حَتَّى ظَنُّوا أَنَّ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ تَسْعَى وَقَالَ تَعَالَى: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى طه: 66 وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ مُقَيَّدًا فِيمَا يُمْدَحُ وَيُحْمَدُ.
رُوِيَ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ وَعَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ، فَقَالَ لِعَمْرٍو: خَبِّرْنِي عَنِ الزِّبْرِقَانِ، فَقَالَ: مُطَاعٌ فِي نَادِيهِ شَدِيدُ الْعَارِضَةِ مَانِعٌ لِمَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ، فَقَالَ الزِّبْرِقَانُ: هُوَ وَاللَّهِ يَعْلَمُ أَنِّي أَفْضَلُ مِنْهُ، فَقَالَ عَمْرٌو: إِنَّهُ زَمَنُ الْمُرُوءَةِ ضَيِّقُ الْعَطَنِ أَحْمَقُ الْأَبِ لَئِيمُ الْخَالِ يَا رَسُولَ اللَّهِ صَدَقْتَ فِيهِمَا، أَرْضَانِي فَقُلْتُ: أَحْسَنَ مَا عَلِمْتُ وَأَسْخَطَنِي فَقُلْتُ أَسْوَأَ مَا عَلِمْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا»
فَسَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ الْبَيَانِ سِحْرًا لِأَنَّ صَاحِبَهُ يُوَضِّحُ الشَّيْءَ الْمُشْكِلَ وَيَكْشِفُ عَنْ حَقِيقَتِهِ بِحُسْنِ بَيَانِهِ وَبَلِيغِ عِبَارَتِهِ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُسَمِّيَ مَا يُوَضِّحُ الْحَقَّ وَيُنْبِئُ عَنْهُ سِحْرًا؟ وَهَذَا الْقَائِلُ إِنَّمَا قَصَدَ إِظْهَارَ الْخَفِيِّ لَا إِخْفَاءَ الظَّاهِرِ وَلَفْظُ السِّحْرِ إِنَّمَا يُفِيدُ إِخْفَاءَ الظَّاهِرِ؟ قُلْنَا: إِنَّمَا سَمَّاهُ سِحْرًا لِوَجْهَيْنِ، الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ لِلُطْفِهِ وَحُسْنِهِ اسْتَمَالَ الْقُلُوبَ فَأَشْبَهَ السِّحْرَ الَّذِي يَسْتَمِيلُ الْقُلُوبَ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ سُمِّيَ سِحْرًا، لَا مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي ظَنَنْتَ/. الثَّانِي: أَنَّ الْمُقْتَدِرَ عَلَى الْبَيَانِ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى تَحْسِينِ مَا يَكُونُ قَبِيحًا وَتَقْبِيحِ مَا يَكُونُ حَسَنًا فَذَلِكَ يُشْبِهُ السِّحْرَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي أَقْسَامِ السِّحْرِ: اعْلَمْ أَنَّ السِّحْرَ عَلَى أَقْسَامٍ. الْأَوَّلُ: سِحْرُ الْكَلْدَانِيِّينَ والْكَسْدَانِيِّينَ الَّذِينَ كَانُوا فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ وَهُمْ قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا هِيَ الْمُدَبِّرَةُ لِهَذَا الْعَالَمِ، وَمِنْهَا تَصْدُرُ الْخَيْرَاتُ وَالشُّرُورُ وَالسَّعَادَةُ وَالنُّحُوسَةُ وَهُمُ الَّذِينَ بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُبْطِلًا لِمَقَالَتِهِمْ وَرَادًّا عَلَيْهِمْ فِي مَذْهَبِهِمْ. أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدِ اتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمْ عَلَى أَنَّ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ الْجِسْمِ وَالْحَيَاةِ وَاللَّوْنِ وَالطَّعْمِ، وَاحْتَجُّوا بِوُجُوهٍ ذَكَرَهَا الْقَاضِي وَلَخَّصَهَا فِي تَفْسِيرِهِ وَفِي سَائِرِ كُتُبِهِ وَنَحْنُ نَنْقُلُ تِلْكَ الْوُجُوهَ