جَرَمَ مَا كَانَتِ التَّوْبَةُ صَحِيحَةً؟ قُلْنَا: الْقَوْمُ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّ النَّدَمَ عَلَى الْقَبِيحِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِوَجْهِ قُبْحِهِ حَتَّى يَكُونَ نَافِعًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَدَمُهُمْ وَاقِعًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُونَ آتِينَ بِالتَّوْبَةِ الصَّحِيحَةِ مع عدم القبول فصح قولنا. ثُمَّ شَرَحَ تَعَالَى مَا يَقُولُهُ هَذَا الْإِنْسَانُ فقال تعالى:
سورة الفجر (89) : آية 24يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24)
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِلْآيَةِ تأويلات:
أحدهما: يا ليتني قَدَّمْتُ فِي الدُّنْيَا الَّتِي كَانَتْ حَيَاتِي فِيهَا مُنْقَطِعَةً، لِحَيَاتِي هَذِهِ الَّتِي هِيَ دَائِمَةٌ غَيْرُ مُنْقَطِعَةٍ، وَإِنَّمَا قَالَ: لِحَياتِي وَلَمْ يَقُلْ: لِهَذِهِ الْحَيَاةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْحَيَاةَ كَأَنَّهَا لَيْسَتْ إِلَّا الْحَيَاةَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ الْعَنْكَبُوتِ: 64 أَيْ لَهِيَ الْحَيَاةُ.
وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي حَقِّ الْكَافِرِ: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ إِبْرَاهِيمَ: 17 وَقَالَ: فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى طه: 74 وَقَالَ: وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى الْأَعْلَى: 11- 13 فَهَذِهِ الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ أَهْلَ النَّارِ فِي الْآخِرَةِ كَأَنَّهُ لَا حَيَاةَ لَهُمْ، وَالْمَعْنَى فَيَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ عَمَلًا يُوجِبُ نَجَاتِي مِنَ النَّارِ حَتَّى أَكُونَ مِنَ الْأَحْيَاءِ.
وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: فَيَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ وَقْتَ حَيَاتِي فِي الدُّنْيَا، كَقَوْلِكَ جِئْتُهُ لِعَشْرِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ رَجَبٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الِاخْتِيَارَ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ وَمُعَلَّقًا بِقَصْدِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ وَأَنَّهُمْ مَا كَانُوا مَحْجُوبِينَ عَنِ الطَّاعَاتِ مُجْتَرِئِينَ عَلَى الْمَعَاصِي وَجَوَابُهُ: أَنَّ فِعْلَهُمْ كَانَ مُعَلَّقًا بِقَصْدِهِمْ، فَقَصْدُهُمْ إِنْ كَانَ مُعَلَّقًا بِقَصْدٍ آخَرَ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَإِنْ كَانَ مُعَلَّقًا بِقَصْدِ اللَّهِ فَقَدْ بَطَلَ الِاعْتِزَالُ. ثم قال تعالى:
سورة الفجر (89) : الآيات 25 الى 26فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26)
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قِرَاءَةُ العامة يعذب ويوثق بِكَسْرِ الْعَيْنِ فِيهِمَا «1» قَالَ مُقَاتِلٌ مَعْنَاهُ: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَ اللَّهِ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَ اللَّهِ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ، وَالْمَعْنَى لَا يَبْلُغُ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ كَبَلَاغِ اللَّهِ فِي الْعَذَابِ وَالْوَثَاقِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هَذَا التَّفْسِيرُ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُعَذِّبٌ سِوَى اللَّهِ فَكَيْفَ يُقَالُ: لَا يُعَذِّبُ أَحَدٌ فِي مِثْلِ عَذَابِهِ، وَأُجِيبُ عَنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّقْدِيرَ لَا يُعَذِّبُ أَحَدٌ فِي الدُّنْيَا عَذَابَ اللَّهِ الْكَافِرَ يَوْمَئِذٍ، وَلَا يُوثِقُ أَحَدٌ فِي الدُّنْيَا وَثَاقَ اللَّهِ الْكَافِرَ يَوْمَئِذٍ، وَالْمَعْنَى مِثْلَ عَذَابِهِ وَوَثَاقِهِ فِي الشِّدَّةِ وَالْمُبَالَغَةِ الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى لَا يَتَوَلَّى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ اللَّهِ أَحَدٌ. أَيِ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ أَمْرُهُ وَلَا أَمْرَ لِغَيْرِهِ الثَّالِثُ: وهو قول أبي علي