وَالْعُسْرَى إِنْ كَانَ جَمَاعَةَ الْأَعْمَالِ، فَوَجْهُ التَّأْنِيثِ ظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ عَمَلًا وَاحِدًا رَجَعَ التَّأْنِيثُ إِلَى الْخَلَّةِ أَوِ الْفَعْلَةِ، وَعَلَى هَذَا مَنْ جَعَلَ يُسْرَى هُوَ تَيْسِيرُ الْعَوْدَ ةِ إِلَى مَا فَعَلَهُ الْإِنْسَانُ مِنَ الطَّاعَةِ رَجَّعَ التَّأْنِيثَ إِلَى الْعَوْدَ ةِ ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: فَسَنُيَسِّرُهُ للعود ة التي هي كذاو ثانيها: أَنْ يَكُونَ مَرْجِعُ التَّأْنِيثِ إِلَى الطَّرِيقَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لِلطَّرِيقَةِ الْيُسْرَى وَالْعُسْرَى وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْعِبَادَاتِ أُمُورٌ شَاقَّةٌ عَلَى الْبَدَنِ، فَإِذَا عَلِمَ الْمُكَلَّفُ أَنَّهَا تُفْضِي إِلَى الْجَنَّةِ سَهُلَتْ تِلْكَ الْأَفْعَالُ الشَّاقَّةُ عَلَيْهِ، بِسَبَبِ تَوَقُّعِهِ لِلْجَنَّةِ، فَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْجَنَّةَ يُسْرَى، ثُمَّ عَلَّلَ حُصُولَ الْيُسْرَى فِي أَدَاءِ الطَّاعَاتِ بِهَذِهِ الْيُسْرَى وَقَوْلُهُ: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى بِالضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي مَعْنَى التَّيْسِيرِ لِلْيُسْرَى وَالْعُسْرَى وُجُوهٌ: وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ فَسَّرَ الْيُسْرَى بِالْجَنَّةِ فَسَّرَ التَّيْسِيرَ لِلْيُسْرَى بِإِدْخَالِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ فِي الْجَنَّةِ بِسُهُولَةٍ وَإِكْرَامٍ، عَلَى مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ الرَّعْدِ: 23، 24 وَقَوْلِهِ: طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ الزُّمَرِ:
73 وَقَوْلِهِ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ الرَّعْدِ: 24 وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَ الْيُسْرَى بِأَعْمَالِ الْخَيْرِ فَالتَّيْسِيرُ لَهَا هُوَ تَسْهِيلُهَا عَلَى مَنْ أَرَادَ حَتَّى لَا يَعْتَرِيَهُ مِنَ التَّثَاقُلِ مَا يَعْتَرِي الْمُرَائِينَ وَالْمُنَافِقِينَ مِنَ الْكَسَلِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ الْبَقَرَةِ: 45 وَقَالَ: وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى
النسار: 142 وَقَالَ: مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ التَّوْبَةِ: 38 فَكَانَ التَّيْسِيرُ هُوَ التَّنْشِيطُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اسْتَدَلَّ الْأَصْحَابُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ فِي التَّوْفِيقِ وَالْخِذْلَانِ، فَقَالُوا: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّ الْمُؤْمِنَ بِهَذَا التَّوْفِيقِ، وَهُوَ أَنَّهُ جَعَلَ الطَّاعَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ أَرْجَحَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَقَوْلُهُ: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ خَصَّ الْكَافِرَ بِهَذَا الْخِذْلَانِ، وَهُوَ أَنَّهُ جَعَلَ الْمَعْصِيَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ أَرْجَحَ مِنَ الطَّاعَةِ، وَإِذَا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى حُصُولِ الرجحان لزم القوم بِالْوُجُوبِ لِأَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ حَالَ الِاسْتِوَاءِ يَمْتَنِعُ الرُّجْحَانُ، فَحَالُ الْمَرْجُوحِيَّةِ أَوْلَى بِالِامْتِنَاعِ، وَإِذَا امْتَنَعَ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ وَجَبَ حُصُولُ الطَّرَفِ الْآخَرِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا خُرُوجَ عَنْ طَرَفَيِ النَّقِيضِ. أَجَابَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ وَجْهِ التَّمَسُّكِ بِالْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ تَسْمِيَةَ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ بِاسْمِ الْآخَرِ مَجَازٌ مَشْهُورُ، قَالَ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها الشُّورَى: 40 وَقَالَ: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ الإنشقاق: 24 فَلَمَّا سَمَّى اللَّهُ فِعْلَ الْأَلْطَافِ الدَّاعِيَةِ إِلَى الطَّاعَاتِ تَيْسِيرًا لِلْيُسْرَى، سَمَّى تَرْكَ هَذِهِ الْأَلْطَافِ تَيْسِيرًا لِلْعُسْرَى وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ إِضَافَةِ الْفِعْلِ إِلَى الْمُسَبِّبِ لَهُ دُونَ الْفَاعِلِ. كَمَا قِيلَ فِي الْأَصْنَامَ: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ إِبْرَاهِيمَ:
36 وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْحُكْمِ بِهِ وَالْإِخْبَارِ عَنْهُ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْكُلِّ أَنَّهُ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، لَا سِيَّمَا أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ جَانِبِنَا مُتَأَكَّدٌ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الْقَاطِعِ، ثُمَّ/ إِنَّ أَصْحَابَنَا أَكَّدُوا ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا
رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلَّا وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ مَكَانَهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، قُلْنَا: أَفَلَا نَتَّكِلُ؟ قَالَ: لَا اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ»
أَجَابَ الْقَفَّالُ عَنْهُ بِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ خُلِقُوا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ، كَمَا قَالَ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ الذَّارِيَاتِ: 56 وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا جَوَابًا عَنْ سُؤَالِهِمْ، يَعْنِي اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا وَافَقَ مَعْلُومَ اللَّهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا:
أَنَّ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَى الْعَبْدِ وَعَلِمَهُ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُمْتَنِعُ التَّغْيِيرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.