أَعْطَيْتُكَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، وَمَا ضَيَّعْتُكَ أَتَرَى أَنَّكَ إِذَا اكْتَسَبْتَ شَيْئًا وَجَعَلْتَهُ وَدِيعَةً عِنْدِي فَأَنَا أُضَيِّعُهَا، كَلَّا إِنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَكُونُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَابَلَ الْجَمْعَ بِالْجَمْعِ «1» ، وَهُوَ يَقْتَضِي مُقَابَلَةَ الْفَرْدِ بِالْفَرْدِ، كَمَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ أَوْ عَبْدَيْهِ: إِنْ دَخَلْتُمَا هَاتَيْنِ الدَّارَيْنِ فَأَنْتُمَا كَذَا فَيُحْمَلُ هَذَا عَلَى أَنْ يَدْخُلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَارًا عَلَى حِدَةٍ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَدْخُلَا الدَّارَيْنِ، وَعَلَى هَذَا إِنْ مَلَكْتُمَا هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ، وَدَلِيلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ نُوحٍ: 7 فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بَيْنَ أَنَّ الْجَزَاءَ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ جَنَّةٌ وَاحِدَةٌ، لَكِنَّ أَدْنَى تِلْكَ الْجَنَّاتِ مِثْلُ الدُّنْيَا بِمَا فِيهَا عَشْرَ مَرَّاتٍ كَذَا رُوِيَ مَرْفُوعًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمُلْكاً كَبِيراً الْإِنْسَانِ: 20 وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ جَنَّاتٌ، كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ الْقُرْآنُ، لِأَنَّهُ قَالَ:
وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ الرَّحْمَنِ: 26 ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ الرَّحْمَنِ: 62 فَذَكَرَ أَرْبَعًا لِلْوَاحِدِ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ بَكَى مِنْ خَوْفِ اللَّهِ، وَذَلِكَ الْبُكَاءُ إِنَّمَا نَزَلَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَجْفَانٍ اثْنَانِ دُونَ الِاثْنَيْنِ، فَاسْتَحَقَّ جَنَّتَيْنِ دُونَ الْجَنَّتَيْنِ، فَحَصَلَتْ لَهُ أَرْبَعُ جَنَّاتٍ، لِسَكْبِهِ الْبُكَاءَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَجْفَانٍ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ الْخَوْفَ فِي قَوْلِهِ: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ وَأَخَّرَ الْخَوْفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ خَتَمَ السُّورَةَ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ/ دَوَامِ الْخَوْفِ، أَمَّا قَبْلَ الْعَمَلِ فَالْحَاصِلُ خَوْفُ الاختلال، وأما بعد العمل فالحاصل خوف الخلاف، إِذْ هَذِهِ الْعِبَادَةُ لَا تَلِيقُ بِتِلْكَ الْحَضْرَةِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: عَدْنٍ يُفِيدُ الْإِقَامَةَ: لَا يُخْرَجُونَ مِنْها الْجَاثِيَةِ: 45 وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ الْحِجْرِ: 48 لَا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا الْكَهْفِ: 108 يُقَالُ: عَدَنَ بِالْمَكَانِ أَقَامَ،
وَرُوِيَ أَنَّ جَنَّاتِ عَدْنٍ وَسَطُ الْجَنَّةِ،
وَقِيلَ: عَدْنٌ مِنَ الْمَعْدِنِ أَيْ هِيَ مَعْدِنُ النَّعِيمِ وَالْأَمْنِ وَالسَّلَامَةِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا سُمِّيَتْ جَنَّةً إِمَّا مِنَ الْجِنِّ أَوِ الْجُنُونِ أَوِ الْجُنَّةِ أَوِ الْجَنِينِ، فَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْجِنِّ فَهُمُ الْمَخْصُوصُونَ بِسُرْعَةِ الْحَرَكَةِ يَطُوفُونَ الْعَالَمَ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّهَا فِي إِيصَالِ الْمُكَلَّفِ إِلَى مُشْتَهَيَاتِهِ فِي غَايَةِ الْإِسْرَاعِ مِثْلَ حَرَكَةِ الْجِنِّ، مَعَ أَنَّهَا دَارُ إِقَامَةٍ وَعَدْنٍ، وَإِمَّا مِنَ الْجُنُونِ فَهُوَ أَنَّ الْجَنَّةَ، بِحَيْثُ لَوْ رَآهَا الْعَاقِلُ يَصِيرُ كَالْمَجْنُونِ، لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ بِفَضْلِهِ يُثَبِّتُهُ، وَإِمَّا مِنَ الْجُنَّةِ فَلِأَنَّهَا جُنَّةٌ وَاقِيَةٌ تَقِيكَ مِنَ النَّارِ، أَوْ مِنَ الْجَنِينِ، فَلِأَنَّ الْمُكَلَّفَ يَكُونُ فِي الْجَنَّةِ فِي غَايَةِ التَّنَعُّمِ، وَيَكُونُ كَالْجَنِينِ لَا يَمَسُّهُ بَرْدٌ وَلَا حَرٌّ لَا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً الْإِنْسَانِ: 13 .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: تَجْرِي إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَاءَ الْجَارِيَ أَلْطَفُ مِنَ الرَّاكِدِ، وَمِنْ ذَلِكَ النَّظَرُ إِلَى الْمَاءِ الْجَارِي، يَزِيدُ نُورًا فِي الْبَصَرِ بَلْ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: طَاعَتُكَ كَانَتْ جَارِيَةً مَا دُمْتَ حَيًّا عَلَى مَا قَالَ: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ الْحِجْرِ: 99 فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ أَنْهَارُ إِكْرَامِي جَارِيَةً إِلَى الْأَبَدِ، ثُمَّ قَالَ: مِنْ تَحْتِهَا إِشَارَةً إِلَى عَدَمِ التَّنْغِيصِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّنْغِيصَ فِي الْبُسْتَانِ، إِمَّا بِسَبَبِ عَدَمِ الْمَاءِ الْجَارِي فَذَكَرَ الْجَرْيَ الدَّائِمَ، وَإِمَّا بِسَبَبِ الْغَرَقِ وَالْكَثْرَةِ، فَذَكَرَ مِنْ تَحْتِهَا، ثُمَّ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْأَنْهَارِ لِلتَّعْرِيفِ فَتَكُونُ مُنْصَرِفَةً إِلَى الْأَنْهَارِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ، وَهِيَ نَهْرُ الْمَاءِ وَاللَّبَنِ وَالْعَسَلِ وَالْخَمْرِ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّهَارَ وَالْأَنْهَارَ مِنَ السَّعَةِ وَالضِّيَاءِ، فَلَا تُسَمَّى السَّاقِيَةُ نَهَرًا، بَلِ الْعَظِيمُ هُوَ الَّذِي يُسَمَّى نَهَرًا بِدَلِيلِ قَوْلُهُ: وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ