وَسَأَلُوهُ أَنْ يَحْفَظَ الْبَيْتَ، وَلَعَلَّهُ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْإِجَابَةَ، فَلَوْ ذَكَرَ الْأَلْفَاظَ الثَّلَاثَةَ لَطَالَ الْكَلَامُ فَذَكَرَ لَفْظًا يَشْمَلُ الْكُلَّ.
السُّؤَالُ الرابع: لما قَالَ: رَبُّكَ، وَلَمْ يَقُلْ: الرَّبُّ؟ الْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّهُمْ لَمَّا شَاهَدُوا هَذَا الِانْتِقَامَ ثُمَّ لَمْ يَتْرُكُوا عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ، وَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ مَا شَاهَدْتَهُ ثُمَّ اعْتَرَفْتَ بِالشُّكْرِ وَالطَّاعَةِ، فَكَأَنَّكَ أَنْتَ الَّذِي رَأَيْتَ ذَلِكَ الِانْتِقَامَ، فَلَا جَرَمَ تَبَرَّأْتُ عَنْهُمْ وَاخْتَرْتُكَ مِنَ الْكُلِّ، فَأَقُولُ: رَبُّكَ، أَيْ أَنَا لَكَ وَلَسْتُ لَهُمْ بَلْ عَلَيْهِمْ وَثَانِيهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّمَا فَعَلْتُ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ذَلِكَ تَعْظِيمًا لَكَ وَتَشْرِيفًا لِمَقْدَمِكَ، فَأَنَا كُنْتُ مُرَبِّيًا لَكَ قَبْلَ قَوْمِكِ، فَكَيْفَ أَتْرُكُ تَرْبِيَتَكَ بَعْدَ ظُهُورِكَ، فَفِيهِ بِشَارَةٌ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّهُ سَيَظْفَرُ.
السُّؤَالُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ مَذْكُورٌ فِي مَعْرِضِ التَّعَجُّبِ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَتْ عَجِيبَةً، فَمَا السَّبَبُ لِهَذَا التَّعَجُّبِ؟ الْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْكَعْبَةَ تَبَعٌ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلْمَ يُؤَدَّى بِدُونِ الْمَسْجِدِ أَمَّا لَا مَسْجِدَ بِدُونِ الْعَالِمِ فَالْعَالِمُ هُوَ الدُّرُّ وَالْمَسْجِدُ هُوَ الصَّدَفُ، ثُمَّ الرَّسُولُ الَّذِي هُوَ الدُّرُّ هَمَزَهُ الْوَلِيدُ وَلَمَزَهُ حَتَّى ضَاقَ قَلْبُهُ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّ الْمَلِكَ الْعَظِيمَ لَمَّا طَعَنَ فِي الْمَسْجِدِ هَزَمْتُهُ وَأَفْنَيْتُهُ، فَمَنْ طَعَنَ فِيكَ وَأَنْتَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْكُلِّ أَلَا أُفْنِيهِ وَأُعْدِمُهُ! إِنَّ هَذَا لَعَجِيبٌ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْكَعْبَةَ قِبْلَةُ صَلَاتِكَ وَقَلْبُكَ قِبْلَةُ مَعْرِفَتِكَ، ثُمَّ أَنَا حَفِظْتُ قِبْلَةَ عَمَلِكَ عَنِ الْأَعْدَاءِ، أفلا تسعى فِي حِفْظِ قِبْلَةِ دِينِكَ عَنِ الْآثَامِ وَالْمَعَاصِي!.
السُّؤَالُ السَّادِسُ: لِمَ قَالَ: بِأَصْحابِ الْفِيلِ وَلَمْ يَقُلْ: أَرْبَابُ الْفِيلِ أَوْ مُلَّاكُ الْفِيلِ؟ الْجَوَابُ: لِأَنَّ الصَّاحِبَ يَكُونُ مِنَ الْجِنْسِ، فَقَوْلُهُ: بِأَصْحابِ الْفِيلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُولَئِكَ الْأَقْوَامَ كَانُوا مِنْ جِنْسِ الْفِيلِ فِي الْبَهِيمِيَّةِ وَعَدَمِ الْفَهْمِ وَالْعَقْلِ، بَلْ فِيهِ دَقِيقَةٌ وَهِيَ: أَنَّهُ إِذَا حَصَلَتِ الْمُصَاحَبَةُ بَيْنَ شَخْصَيْنِ فَيُقَالُ: لِلْأَدْوَنِ إِنَّهُ صَاحِبُ الْأَعْلَى، وَلَا يُقَالُ لِلْأَعْلَى إِنَّهُ صَاحِبُ الْأَدْوَنِ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: لِمَنْ صَحِبَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّهُمُ الصَّحَابَةُ، فَقَوْلُهُ: بِأَصْحابِ الْفِيلِ يَدُلُّ على أن أولئك الأقوام كانوا أقل حال وَأَدْوَنَ مَنْزِلَةً مِنَ الْفِيلِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ هُمْ أَضَلُّ الْأَعْرَافِ: 179 وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ كُلَّمَا وَجَّهُوا الْفِيلَ إِلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ كَانَ يَتَحَوَّلُ عَنْهُ وَيَفِرُّ عَنْهُ، كَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ عَزْمِي حَمِيدٌ فَلَا أَتْرُكُهُ «1» وَهُمْ مَا كَانُوا يَتْرُكُونَ تِلْكَ الْعَزِيمَةَ الرَّدِيَّةَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْفِيلَ كَانَ أَحْسَنَ حَالًا مِنْهُمْ.
السُّؤَالُ السَّابِعُ: أَلَيْسَ أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ كَانُوا مَلَأُوا الْكَعْبَةَ مِنَ الْأَوْثَانِ مِنْ قَدِيمِ الدَّهْرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ أَقْبَحَ مِنْ تَخْرِيبِ جُدْرَانِ الْكَعْبَةِ، فَلِمَ سَلَّطَ اللَّهُ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ قَصَدَ التَّخْرِيبَ، وَلَمْ يُسَلِّطِ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ مَلَأَهَا مِنَ الْأَوْثَانِ؟ وَالْجَوَابُ: لِأَنَّ وَضْعَ الْأَوْثَانِ فِيهَا تَعَدٍّ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَخْرِيبَهَا تَعَدٍّ عَلَى حَقِّ الْخَلْقِ، وَنَظِيرُهُ قَاطِعُ الطَّرِيقِ، وَالْبَاغِي وَالْقَاتِلُ يُقْتَلُونَ مَعَ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، وَلَا يُقْتَلُ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْأَعْمَى وَصَاحِبُ الصَّوْمَعَةِ وَالْمَرْأَةُ، وَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا، لِأَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى ضَرَرُهُمْ إِلَى الْخَلْقِ.
السُّؤَالُ الثَّامِنُ: كَيْفَ الْقَوْلُ فِي إِعْرَابِ هَذِهِ الْآيَةِ؟ الْجَوَابُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: كَيْفَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِفِعْلٍ لَا بِقَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ لِأَنَّ كَيْفَ مِنْ حروف الاستفهام.