الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها الْبَقَرَةِ: 142 ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَزَالَهُمْ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الْبَقَرَةِ: 144 . قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: حُكْمُ تِلْكَ الْقِبْلَةِ مَا زَالَ بِالْكُلِّيَّةِ لِجَوَازِ التَّوَجُّهِ إِلَيْهَا عِنْدَ الْإِشْكَالِ أَوْ مَعَ الْعِلْمِ إِذَا كَانَ هُنَاكَ عُذْرٌ.
الْجَوَابُ: أَنَّ عَلَى مَا ذَكَرْتَهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَسَائِرِ الْجِهَاتِ، فَالْخُصُوصِيَّةُ الَّتِي بِهَا امْتَازَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ عَنْ سَائِرِ الْجِهَاتِ قَدْ زَالَتْ بِالْكُلِّيَّةِ فَكَانَ نَسْخًا.
الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ النَّحْلِ: 101 وَالتَّبْدِيلُ يَشْتَمِلُ عَلَى رَفْعٍ وَإِثْبَاتٍ، وَالْمَرْفُوعُ إِمَّا التِّلَاوَةُ وَإِمَّا الْحُكْمُ، فَكَيْفَ كَانَ فَهُوَ رَفْعٌ وَنَسْخٌ، وَإِنَّمَا أَطْنَبْنَا فِي هَذِهِ الدَّلَائِلِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ النَّسْخِ فِي الْجُمْلَةِ وَاحْتَجَّ أَبُو مُسْلِمٍ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ كِتَابَهُ بِأَنَّهُ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، فَلَوْ نُسِخَ لَكَانَ قَدْ أَتَاهُ الْبَاطِلُ. وَالْجَوَابُ:
أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ مَا يُبْطِلُهُ وَلَا يَأْتِيهِ مِنْ بَعْدِهِ أَيْضًا مَا يُبْطِلُهُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: الْمَنْسُوخُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْحُكْمَ فَقَطْ أَوِ التِّلَاوَةَ فَقَطْ أَوْ هُمَا مَعًا، أَمَّا الَّذِي يَكُونُ الْمَنْسُوخُ هُوَ الْحُكْمَ دُونَ التِّلَاوَةِ فَكَهَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي عَدَدْنَاهَا، وَأَمَّا الَّذِي يَكُونُ الْمَنْسُوخُ هُوَ التِّلَاوَةَ فَقَطْ فَكَمَا يُرْوَى عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نَقْرَأُ آيَةَ الرَّجْمِ: «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»
وَرُوِيَ: «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى إِلَيْهِمَا ثَالِثًا وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ» ،
وَأَمَّا الَّذِي يَكُونُ مَنْسُوخَ الْحُكْمِ وَالتِّلَاوَةِ مَعًا، فَهُوَ مَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ نَزَلَ فِي الرَّضَاعِ بِعَشْرٍ مَعْلُومَاتٍ ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَالْعَشْرُ مَرْفُوعُ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمِ جَمِيعًا وَالْخُمْسُ مَرْفُوعُ التِّلَاوَةِ بَاقِي الْحُكْمِ.
وَيُرْوَى أَيْضًا أَنَّ سُورَةَ الْأَحْزَابِ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ السَّبْعِ الطِّوَالِ أَوْ أَزْيَدَ ثُمَّ وَقَعَ النُّقْصَانُ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها فَمِنْهُمْ مَنْ/ فَسَّرَ النَّسْخَ بِالْإِزَالَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِالنَّسْخِ بِمَعْنَى نَسَخْتُ الْكِتَابَ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَمَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا، أَحَدُهَا: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ وَأَنْتُمْ تَقْرَءُونَهُ أَوْ نُنْسِهَا أَيْ مِنَ الْقُرْآنِ مَا قُرِئَ بَيْنَكُمْ ثُمَّ نُسِّيتُمْ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالْأَصَمِّ وَأَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ فَحَمَلُوهُ عَلَى نَسْخِ الْحُكْمِ دُونَ التِّلَاوَةِ، وَنُنْسِهَا عَلَى نَسْخِ الْحُكْمِ وَالتِّلَاوَةِ مَعًا، فَإِنْ قِيلَ: وُقُوعُ هَذَا النِّسْيَانِ مَمْنُوعٌ عَقْلًا وَشَرْعًا. أَمَّا الْعَقْلُ فَلِأَنَّ الْقُرْآنَ لَا بُدَّ مِنْ إِيصَالِهِ إِلَى أَهْلِ التَّوَاتُرِ، وَالنِّسْيَانُ عَلَى أَهْلِ التَّوَاتُرِ بِأَجْمَعِهِمْ مُمْتَنِعٌ. وَأَمَّا النَّقْلُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ الْحِجْرِ: 9 وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ النِّسْيَانَ يَصِحُّ بِأَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ تَعَالَى بِطَرْحِهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَإِخْرَاجِهِ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُتْلَى وَيُؤْتَى بِهِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ يُحْتَجُّ بِهِ، فَإِذَا زَالَ حُكْمُ التَّعَبُّدِ بِهِ وَطَالَ الْعَهْدُ نُسِيَ أَوْ إِنْ ذُكِرَ فَعَلَى طَرِيقِ مَا يُذْكَرُ خَبَرُ الْوَاحِدِ فَيَصِيرُ لِهَذَا الْوَجْهِ مَنْسِيًّا عَنِ الصُّدُورِ، الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ مُعْجِزَةً لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ،
وَيُرْوَى فِيهِ خَبَرٌ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْرَءُونَ السُّورَةَ فَيُصْبِحُونَ وَقَدْ نَسُوهَا،
وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ الْأَعْلَى: 6، 7 وَبِقَوْلِهِ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ الْكَهْفِ: 24 .
الْقَوْلُ الثَّانِي: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَيْ نُبَدِّلْهَا، إِمَّا بِأَنْ نُبَدِّلَ حُكْمَهَا فَقَطْ أَوْ تِلَاوَتَهَا فَقَطْ أَوْ نُبَدِّلَهُمَا، أَمَّا قوله