الْمَقْصُودَ مِنْ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ تَنْوِيرُ الْقَلْبِ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَتَطْهِيرُهُ عَمَّا سِوَى اللَّهِ، وَالنِّيَّةُ صِفَةُ الْقَلْبِ، وَالْفِعْلُ لَيْسَ صِفَةَ الْقَلْبِ، وَتَأْثِيرُ صِفَةِ الْقَلْبِ أَقْوَى مِنْ تَأْثِيرِ صِفَةِ الْجَوَارِحِ فِي الْقَلْبِ، فَلَا جَرَمَ نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ.
وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلنِّيَّةِ إِلَّا الْقَصْدُ إِلَى إِيقَاعِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ طَاعَةً لِلْمَعْبُودِ وانقيادا له، وإنما يراد الأعمال ليست حفظ التَّذَكُّرُ بِالتَّكْرِيرِ، فَيَكُونُ الذِّكْرُ وَالْقَصْدُ الَّذِي فِي الْقَلْبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَمَلِ كَالْمَقْصُودِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَسِيلَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَقْصُودَ أَشْرَفُ مِنَ الْوَسِيلَةِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْقَلْبَ أَشْرَفُ مِنَ الْجَسَدِ، فَفِعْلُهُ أَشْرَفُ مِنْ فِعْلِ الْجَسَدِ، فَكَانَتِ النِّيَّةُ أَفْضَلَ مِنَ الْعَمَلِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الأعمال على ثلاثة أقسام: طاعات، ومعاصي، وَمُبَاحَاتٍ، أَمَّا الْمَعَاصِي فَهِيَ لَا تَتَغَيَّرُ عَنْ مَوْضُوعَاتِهَا بِالنِّيَّةِ، فَلَا يَظُنَّ الْجَاهِلُ أَنَّ
قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»
يَقْتَضِي انْقِلَابَ الْمَعْصِيَةِ طَاعَةً بِالنِّيَّةِ كَالَّذِي يُطْعِمُ فَقِيرًا مِنْ مَالِ غَيْرِهِ، أَوْ يَبْنِي/ مَسْجِدًا مِنْ مَالٍ حَرَامٍ. الثَّانِي: الطَّاعَاتُ وَهِيَ مُرْتَبِطَةٌ بِالنِّيَّاتِ فِي الْأَصْلِ وَفِي الْفَضِيلَةِ، أَمَّا فِي الْأَصْلِ فَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ بِهَا عِبَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ نَوَى الرِّيَاءَ صَارَتْ مَعْصِيَةً، وَأَمَّا الْفَضِيلَةُ فَبِكَثْرَةِ النِّيَّاتِ تَكْثُرُ الْحَسَنَةُ كَمَنْ قَعَدَ فِي الْمَسْجِدِ وَيَنْوِي فِيهِ نِيَّاتٍ كَثِيرَةً. أَوَّلُهَا:
أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ بَيْتُ اللَّهِ وَيَقْصِدَ بِهِ زِيَارَةَ مَوْلَاهُ كَمَا
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ قَعَدَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَدْ زَارَ اللَّهَ وَحَقٌّ عَلَى الْمَزُورِ إِكْرَامُ زَائِرِهِ» .
وَثَانِيهَا: أَنْ يَنْتَظِرَ الصَّلَاةَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَيَكُونُ حَالَ الِانْتِظَارِ كَمَنْ هُوَ فِي الصَّلَاةِ.
وَثَالِثُهَا: إِغْضَاءُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وسائر الأعضاء كما لَا يَنْبَغِي، فَإِنَّ الِاعْتِكَافَ كَفٌّ وَهُوَ فِي مَعْنَى الصَّوْمِ، وَهُوَ نَوْعُ تَرَهُّبٍ، وَلِذَلِكَ
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «رَهْبَانِيَّةُ أُمَّتِي الْقُعُودُ فِي الْمَسَاجِدِ» .
وَرَابِعُهَا: صَرْفُ الْقَلْبِ وَالسِّرِّ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَخَامِسُهَا: إِزَالَةُ مَا سِوَى اللَّهِ عَنِ الْقَلْبِ. وَسَادِسُهَا: أَنْ يَقْصِدَ إِفَادَةَ عِلْمٍ أَوْ أَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ. وَسَابِعُهَا: أَنْ يَسْتَفِيدَ أَخًا فِي اللَّهِ فَإِنَّ ذَلِكَ غَنِيمَةُ أَهْلِ الدِّينِ. وَثَامِنُهَا: أَنْ يَتْرُكَ الذُّنُوبَ حَيَاءً مِنَ اللَّهِ فَهَذَا طَرِيقُ تَكْثِيرِ النِّيَّاتِ، وَقِسْ بِهِ سَائِرَ الطَّاعَاتِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: سَائِرُ الْمُبَاحَاتِ وَلَا شَيْءَ مِنْهَا إِلَّا وَيَحْتَمِلُ نِيَّةً أَوْ نِيَّاتٍ يَصِيرُ بِهَا مِنْ مَحَاسِنِ الْقُرُبَاتِ، فَمَا أَعْظَمَ خُسْرَانَ مَنْ يَغْفُلُ عَنْهَا وَلَا يَصْرِفُهَا إِلَى الْقُرُبَاتِ،
وَفِي الْخَبَرِ: مَنْ تَطَيَّبَ لِلَّهِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَمَنْ تَطَيَّبَ لِغَيْرِ اللَّهِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَرِيحُهُ أَنْتَنُ مِنَ الْجِيفَةِ
فَإِنْ قُلْتَ: فَاشْرَحْ لِي كَيْفِيَّةَ هَذِهِ النِّيَّةِ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْقَصْدَ مِنَ التَّطَيُّبِ إِنْ كَانَ هو التنعم وَرِيحُهُ أَنْتَنُ مِنَ الْجِيفَةِ، فَإِنْ قُلْتَ: فَاشْرَحْ لِي كَيْفِيَّةَ هَذِهِ النِّيَّةِ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْقَصْدَ مِنَ التَّطَيُّبِ إِنْ كَانَ هُوَ التَّنَعُّمَ بِلَذَّاتِ الدُّنْيَا أَوْ إِظْهَارَ التَّفَاخُرِ بِكَثْرَةِ الْمَالِ أَوْ رِيَاءَ الْخَلْقِ أَوْ لِيَتَوَدَّدَ بِهِ إِلَى قُلُوبِ النِّسَاءِ، فَكُلُّ ذَلِكَ يَجْعَلُ التَّطَيُّبَ مَعْصِيَةً، وَإِنْ كَانَ الْقَصْدُ إِقَامَةَ السُّنَّةِ وَدَفْعَ الرَّوَائِحِ الْمُؤْذِيَةِ عَنْ عِبَادِ اللَّهِ وَتَعْظِيمَ الْمَسْجِدِ، فَهُوَ عَيْنُ الطَّاعَةِ، وَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَقِسْ عَلَيْهِ سَائِرَ الْمُبَاحَاتِ، وَالضَّابِطُ أَنَّ كُلَّ مَا فَعَلْتَهُ لِدَاعِي الْحَقِّ فَهُوَ الْعَمَلُ الْحَقُّ، وَكُلَّ مَا عَمِلْتَهُ لِغَيْرِ اللَّهِ فَحَلَالُهَا حِسَابٌ وَحَرَامُهَا عَذَابٌ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْجَاهِلَ إِذَا سَمِعَ الْوُجُوهَ الْعَقْلِيَّةَ وَالنَّقْلِيَّةَ فِي أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ النِّيَّةِ فَيَقُولُ فِي نَفْسِهِ عِنْدَ تَدْرِيسِهِ وَتِجَارَتِهِ: نَوَيْتُ أَنْ أُدَرِّسَ لِلَّهِ وَأَتَّجِرَ لِلَّهِ يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ نِيَّةٌ وَهَيْهَاتَ فَذَاكَ حَدِيثُ نَفْسٍ أَوْ حَدِيثُ لِسَانٍ وَالنِّيَّةُ بِمَعْزِلٍ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ إِنَّمَا النِّيَّةُ انْبِعَاثُ النَّفْسِ وَمَيْلُهَا إِلَى مَا ظَهَرَ لَهَا أَنَّ فِيهِ غَرَضَهَا إِمَّا عَاجِلًا وَإِمَّا آجِلًا.
وَالْمَيْلُ إِذَا لَمْ يَحْصُلُ لَمْ يَقْدِرِ الْإِنْسَانُ عَلَى اكْتِسَابِهِ وَهُوَ كَقَوْلِ الشَّبْعَانِ نَوَيْتُ أَنْ أَشْتَهِيَ الطَّعَامَ، أَوْ كَقَوْلِ الْفَارِغِ نَوَيْتُ أَنْ أَعْشَقَ، بَلْ لَا طَرِيقَ إِلَى اكْتِسَابِ الْمَيْلِ إِلَى الشَّيْءِ إِلَّا بِاكْتِسَابِ أَسْبَابِهِ وَلَيْسَتْ هِيَ إِلَّا تَحْصِيلَ الْعِلْمِ بِمَا