الْعِبَادَةِ فِي الْكَعْبَةِ، وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ خَوْفَ الْإِخْرَاجِ، بَلْ خَوْفُ الْجِزْيَةِ وَالْإِخْرَاجِ، قُلْنَا: الْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ ظَاهِرٌ فِي الْعُمُومِ، فَتَخْصِيصُهُ بِبَعْضِ الصُّوَرِ خِلَافُ الظَّاهِرِ. وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ الظَّاهِرَ قَوْلُهُ: مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْخَوْفُ إِنَّمَا حَصَلَ مِنَ الدُّخُولِ، وَعَلَى مَا يَقُولُونَهُ لَا يَكُونُ الْخَوْفُ مُتَوَلِّدًا مِنَ الدُّخُولِ بَلْ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ، فَسَقَطَ كَلَامُهُمْ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ التَّوْبَةِ: 17 وَعِمَارَتُهَا تَكُونُ بِوَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: بِنَاؤُهَا وَإِصْلَاحُهَا. وَالثَّانِي:
حُضُورُهَا وَلُزُومُهَا، كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ يَعْمُرُ/ مَسْجِدَ فُلَانٍ أَيْ يَحْضُرُهُ وَيَلْزَمُهُ
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسَاجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ» ،
وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ التَّوْبَةِ: 18 ، فَجَعَلَ حُضُورَ الْمَسَاجِدِ عِمَارَةً لَهَا. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْحَرَمَ وَاجِبُ التَّعْظِيمِ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الدُّعَاءِ: «اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْتَ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا وَمَهَابَةً»
فَصَوْنُهُ عَمَّا يُوجِبُ تَحْقِيرَهُ وَاجِبٌ وَتَمْكِينُ الْكُفَّارِ مِنَ الدُّخُولِ فِيهِ تَعْرِيضٌ لِلْبَيْتِ لِلتَّحْقِيرِ لِأَنَّهُمْ لِفَسَادِ اعْتِقَادِهِمْ فِيهِ رُبَّمَا اسْتَخَفُّوا بِهِ وَأَقْدَمُوا عَلَى تَلْوِيثِهِ وَتَنْجِيسِهِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِتَطْهِيرِ الْبَيْتِ فِي قَوْلِهِ: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ الْحَجِّ: 26 وَالْمُشْرِكُ نَجَسٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ التَّوْبَةِ: 28 وَالتَّطْهِيرُ عَلَى النَّجَسِ وَاجِبٌ فَيَكُونُ تَبْعِيدُ الْكُفَّارِ عَنْهُ وَاجِبًا. وَسَادِسُهَا: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْجُنُبَ يُمْنَعُ مِنْهُ، فَالْكَافِرُ بِأَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ أَوْلَى إِلَّا أَنَّ هَذَا مُقْتَضَى مَذْهَبِ مَالِكٍ وَهُوَ أَنْ يُمْنَعَ عَنْ كُلِّ الْمَسَاجِدِ وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأُمُورٍ، الْأَوَّلُ:
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَيْهِ وَفْدُ يَثْرِبَ فَأَنْزَلَهُمُ الْمَسْجِدَ.
الثَّانِي:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ دَخَلَ الْكَعْبَةَ فَهُوَ آمِنٌ»
وَهَذَا يَقْتَضِي إِبَاحَةَ الدُّخُولِ. الثَّالِثُ: الْكَافِرُ جَازَ لَهُ دُخُولُ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ فَكَذَلِكَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ كَالْمُسْلِمِ، وَالْجَوَابُ عَنِ الْحَدِيثَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ: أَنَّهُمَا كَانَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالْآيَةِ، وَعَنِ الْقِيَاسِ أَنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَجَلُّ قَدْرًا مِنْ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ فظهر الفرق والله أعلم.
سورة البقرة (2) : آية 115وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115)
اعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، الضَّابِطُ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ زَعَمُوا أَنَّهَا إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي أَمْرٍ يَخْتَصُّ بِالصَّلَاةِ وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي أَمْرٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّلَاةِ، أَمَّا القول الأول أي نزلت في أمر يختص بالصلاة فَهُوَ أَقْوَى لِوَجْهَيْنِ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ كَافَّةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَقَوْلُهُمْ حُجَّةٌ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: فَأَيْنَما تُوَلُّوا يُفِيدُ التَّوَجُّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَلِهَذَا لَا يُعْقَلُ مِنْ قَوْلِهِ: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ الْبَقَرَةِ: 144 إِلَّا هَذَا الْمَعْنَى إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا عَلَى وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ بِهِ تَحْوِيلَ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ وَجَمِيعَ الْجِهَاتِ وَالْأَطْرَافِ كُلَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُ سُبْحَانَهُ وَمَخْلُوقَةُ لَهُ، فَأَيْنَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِاسْتِقْبَالِهِ فَهُوَ الْقِبْلَةُ، لِأَنَّ الْقِبْلَةَ لَيْسَتْ قِبْلَةً لِذَاتِهَا، بل لأن الله جَعَلَهَا قِبْلَةً، فَإِنْ جَعَلَ الْكَعْبَةَ قِبْلَةً فَلَا تُنْكِرُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى يُدَبِّرُ عِبَادَهُ كَيْفَ يُرِيدُ وَهُوَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ بِمَصَالِحِهِمْ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ ذَلِكَ بَيَانًا لِجَوَازِ نَسْخِ الْقِبْلَةِ مِنْ جانب إلى