مُقِرِّينَ بِفَضْلِهِ مُتَشَرِّفِينَ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَوْلَادِهِ، فَحَكَى الله سبحانه وتعالى عن إبراهيم عليه السلام أُمُورًا تُوجِبُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَعَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قبول قوله مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالِاعْتِرَافَ بِدِينِهِ وَالِانْقِيَادَ لِشَرْعِهِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُ بِبَعْضِ التَّكَالِيفِ فَلَمَّا وَفَّى بِهَا وَخَرَجَ عَنْ عُهْدَتِهَا لَا جَرَمَ نَالَ النُّبُوَّةَ وَالْإِمَامَةَ وَهَذَا مِمَّا يُنَبِّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ عَلَى أَنَّ الْخَيْرَ لَا يَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَّا بِتَرْكِ التَّمَرُّدِ وَالْعِنَادِ وَالِانْقِيَادِ لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَكَالِيفِهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ طَلَبَ الْإِمَامَةَ لِأَوْلَادِهِ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْصِبَ الْإِمَامَةِ وَالرِّيَاسَةِ فِي الدِّينِ لَا يَصِلُ إِلَى الظَّالِمِينَ، فَهَؤُلَاءِ مَتَى أَرَادُوا وِجْدَانَ هَذَا الْمَنْصِبِ وَجَبَ عَلَيْهِمْ تَرْكُ اللَّجَاجِ وَالتَّعَصُّبِ لِلْبَاطِلِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْحَجَّ مِنْ خَصَائِصِ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَكَى اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ لِيَكُونَ ذَلِكَ كَالْحُجَّةِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي وُجُوبِ الِانْقِيَادِ لِذَلِكَ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْقِبْلَةَ لَمَّا حُوِّلَتْ إِلَى الْكَعْبَةِ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الْبَيْتَ قِبْلَةُ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي يَعْتَرِفُونَ بِتَعْظِيمِهِ وَوُجُوبِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ فَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ زَوَالَ ذَلِكَ الْغَضَبِ عَنْ قُلُوبِهِمْ.
وَخَامِسُهَا: أَنَّ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ فَسَّرَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي ابْتَلَى اللَّهُ تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ بِهَا بِأُمُورٍ يَرْجِعُ حَاصِلُهَا إِلَى تَنْظِيفِ الْبَدَنِ وَذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ اخْتِيَارَ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِفَضْلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيُوجِبُ عَلَيْهِمْ تَرْكَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّلَطُّخِ بِالدِّمَاءِ وَتَرْكِ النَّظَافَةِ وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ فَسَّرَ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ بِمَا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَبَرَ عَلَى مَا ابْتُلِيَ بِهِ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى/ وَهُوَ النَّظَرُ فِي الْكَوَاكِبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ وَمُنَاظَرَةُ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، ثُمَّ الِانْقِيَادُ لِأَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَبْحِ الْوَلَدِ وَالْإِلْقَاءِ فِي النَّارِ، وَهَذَا يُوجِبُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَعْتَرِفُونَ بِفَضْلِهِ أَنْ يَتَشَبَّهُوا بِهِ فِي ذَلِكَ وَيَسْلُكُوا طَرِيقَتَهُ فِي تَرْكِ الْحَسَدِ وَالْحَمِيَّةِ وَكَرَاهَةِ الِانْقِيَادِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الَّتِي لِأَجْلِهَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى قِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُمُورًا يَرْجِعُ بَعْضُهَا إِلَى الْأُمُورِ الشَّاقَّةِ الَّتِي كَلَّفَهُ بِهَا، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إِلَى التَّشْرِيفَاتِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي خَصَّهُ اللَّهُ بِهَا، وَنَحْنُ نَأْتِي عَلَى تَفْسِيرِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى تَكْلِيفٍ حَصَلَ بَعْدَهُ تَشْرِيفٌ.
أَمَّا التَّكْلِيفُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْعَامِلُ فِي إِذِ قال صاحب الكشاف: العامل في إِذِ إِمَّا مُضْمَرٌ نَحْوُ: وَاذْكُرْ إِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ أَوْ إِذِ ابْتَلَاهُ كَانَ كَيْتَ وَكَيْتَ وَإِمَّا قالَ إِنِّي جاعِلُكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ تَكْلِيفَهُ إِيَّاهُ بِبَلْوَى تَوَسُّعًا لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا يَكُونُ مِنَّا عَلَى جِهَةِ الْبَلْوَى وَالتَّجْرِبَةِ وَالْمِحْنَةِ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْرِفُ مَا يَكُونُ مِمَّنْ يَأْمُرُهُ، فَلَمَّا كَثُرَ ذَلِكَ فِي الْعُرْفِ بَيْنَنَا جَازَ أَنْ يَصِفَ اللَّهُ تَعَالَى أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ بِذَلِكَ مَجَازًا لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الِاخْتِبَارُ وَالِامْتِحَانُ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ، وَقَالَ هِشَامُ بن الحكم: إنه تعالى كَانَ فِي الْأَزَلِ عَالِمًا بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَمَاهِيَّاتِهَا فَقَطْ، فَأَمَّا حُدُوثُ تِلْكَ الْمَاهِيَّاتِ وَدُخُولُهَا فِي الْوُجُودِ فَهُوَ تَعَالَى لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا عِنْدَ وُقُوعِهَا وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِالْآيَةِ وَالْمَعْقُولِ، أَمَّا الْآيَةُ فَهِيَ هَذِهِ الْآيَةُ، قَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى صَرَّحَ بِأَنَّهُ يَبْتَلِي عِبَادَهُ وَيَخْتَبِرُهُمْ وَذَكَرَ نَظِيرَهُ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ مُحَمَّدٍ: 31 وَقَالَ: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا هُودٍ: 7 وَقَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بَعْدَ ذَلِكَ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ