الْقَوْلُ الرَّابِعُ: كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَفَّقْتُكُمْ لِقَبُولِ هَذَا التَّكْلِيفِ لِئَلَّا يَضِيعَ إِيمَانُكُمْ فَإِنَّهُمْ لَوْ رَدُّوا هَذَا التَّكْلِيفَ لَكَفَرُوا وَلَوْ كَفَرُوا لَضَاعَ إِيمَانُهُمْ فَقَالَ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ فَلَا جَرَمَ وَفَّقَكُمْ لِقَبُولِ هَذَا التَّكْلِيفِ وَأَعَانَكُمْ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ قَوْلَهُ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ خِطَابٌ مَعَ من؟ على قولين: الْأَوَّلُ:
أَنَّهُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَكَرَ الْقَفَّالُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وُجُوهًا أَرْبَعَةً. الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ خَاطَبَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانُوا مَوْجُودِينَ حِينَئِذٍ، وَذَلِكَ جَوَابٌ عَمَّا سَأَلُوهُ مِنْ قَبْلُ. الثَّانِي: أَنَّهُمْ سَأَلُوا عَمَّنْ مَاتَ قَبْلَ نَسْخِ الْقِبْلَةِ فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ أَيْ وَإِذَا كَانَ إِيمَانُكُمُ الْمَاضِي قَبْلَ النَّسْخِ لَا يُضِيعُهُ اللَّهُ فَكَذَلِكَ إِيمَانُ مَنْ مَاتَ قَبْلَ النَّسْخِ. الثَّالِثُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَحْيَاءُ قَدْ تَوَهَّمُوا أَنَّ ذَلِكَ لَمَّا نُسِخَ بَطَلَ، وَكَانَ مَا يُؤْتَى بِهِ بَعْدَ النَّسْخِ مِنَ الصَّلَاةِ إِلَى الْكَعْبَةِ كَفَّارَةً لِمَا سَلَفَ وَاسْتَغْنَوْا عَنِ السُّؤَالِ عَنْ أَمْرِ أَنْفُسِهِمْ لِهَذَا الضَّرْبِ مِنَ التَّأْوِيلِ فَسَأَلُوا عَنْ إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا وَلَمْ يَأْتُوا بِمَا يُكَفِّرُ مَا سَلَفَ فَقِيلَ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ وَالْمُرَادُ أَهْلُ مِلَّتِكُمْ كَقَوْلِهِ لِلْيَهُودِ الْحَاضِرِينَ فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً الْبَقَرَةِ: 72 ، وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ الْبَقَرَةِ: 50 . الرَّابِعُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ وَاقِعًا عَنِ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ مَعًا، فَإِنَّهُمْ أَشْفَقُوا عَلَى مَا كَانَ مِنْ صَلَاتِهِمْ أَنْ يُبْطِلَ ثَوَابَهُمْ، وَكَانَ الْإِشْفَاقُ وَاقِعًا فِي الْفَرِيقَيْنِ فَقِيلَ: إِيمَانُكُمْ لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ، إِذْ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ إِذَا أَخْبَرُوا عَنْ حَاضِرٍ وَغَائِبٍ أَنْ يُغَلِّبُوا الْخِطَابَ فَيَقُولُوا: كُنْتَ أَنْتَ وَفُلَانٌ الْغَائِبُ فَعَلْتُمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ، وَهُوَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خِطَابًا لِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ صَلَاتُهُمْ وَطَاعَتُهُمْ قَبْلَ الْبَعْثَةِ ثُمَّ نُسِخَ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ أَبُو مُسْلِمٍ هَذَا الْقَوْلَ لِئَلَّا يَلْزَمَهُ وُقُوعُ النَّسْخِ فِي شَرْعِنَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِقَوْلِهِ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ اسْمٌ لِفِعْلِ الطَّاعَاتِ فَإِنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ بِالْإِيمَانِ هَاهُنَا الصَّلَاةَ. وَالْجَوَابُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْإِيمَانِ هَاهُنَا الصَّلَاةُ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَنَّهُ لَا يُضِيعُ تَصْدِيقَكُمْ بِوُجُوبِ تِلْكَ الصَّلَاةِ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْإِيمَانِ هَاهُنَا الصَّلَاةُ وَلَكِنَّ الصَّلَاةَ أَعْظَمُ الْإِيمَانِ وَأَشْرَفُ نَتَائِجِهِ وَفَوَائِدِهِ فَجَازَ إِطْلَاقُ اسْمِ الْإِيمَانِ عَلَى الصَّلَاةِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ أَيْ لَا يُضِيعُ ثَوَابَ إِيمَانِكُمْ لِأَنَّ الْإِيمَانَ قَدِ انْقَضَى وَفَنِيَ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ اسْتَحَالَ حِفْظُهُ وَإِضَاعَتُهُ إِلَّا أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الثَّوَابِ قَائِمٌ بَعْدَ انْقِضَائِهِ فَصَحَّ حِفْظُهُ وَإِضَاعَتُهُ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ آلِ عِمْرَانَ: 195 أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ أَنَّ الرَّأْفَةَ مُبَالَغَةٌ فِي رَحْمَةٍ خَاصَّةٍ وَهِيَ دَفْعُ الْمَكْرُوهِ وَإِزَالَةُ الضَّرَرِ كَقَوْلِهِ: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ النُّورِ: 2 أَيْ لَا تَرْأَفُوا بِهِمَا فَتَرْفَعُوا الْجَلْدَ عَنْهُمَا، وَأَمَّا الرَّحْمَةُ فَإِنَّهَا اسْمٌ جَامِعٌ يَدْخُلُ فِيهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى ويدخل فيه الانفصال وَالْإِنْعَامُ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْمَطَرَ رَحْمَةً فَقَالَ: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ الْأَعْرَافِ: 57 لِأَنَّهُ إِفْضَالٌ مِنَ اللَّهِ وَإِنْعَامٌ، فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الرَّأْفَةَ أَوَّلًا بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُضِيعُ أَعْمَالَهُمْ وَيُخَفِّفُ الْمِحَنَ عَنْهُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّحْمَةَ لِتَكُونَ