وَمَا لَا سَبِيلَ إِلَى أَدَاءِ الْوَاجِبِ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ تَعَلُّمُ الدَّلَائِلِ الْهَنْدَسِيَّةِ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ إِلَّا أَنَّ الْفُقَهَاءَ قَالُوا: إِنَّ تَعَلُّمَهَا غَيْرُ وَاجِبٍ بَلْ رُبَّمَا قَالُوا: إِنَّ تَعَلُّمَهَا مَكْرُوهٌ أَوْ مُحَرَّمٌ وَلَا أَدْرِي مَا عُذْرُهُمْ فِي هَذَا؟
الْبَحْثُ الثَّانِي: الْمُصَلِّي إِذَا كَانَ بِأَرْضِ مَكَّةَ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ حَائِلٌ وَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ فَهَلْ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ؟ قَالَ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» نُظِرَ إِنْ كَانَ الْحَائِلُ أَصْلِيًّا كَالْجِبَالِ فَلَهُ الِاجْتِهَادُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَصْلِيًّا كَالْأَبْنِيَةِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: لَهُ الِاجْتِهَادُ لِأَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا حَائِلًا يَمْنَعُ الْمُشَاهَدَةَ كَمَا فِي الْحَائِلِ الْأَصْلِيِّ. وَالثَّانِي: لَيْسَ لَهُ الِاجْتِهَادُ لِأَنَّ فَرْضَهُ الرُّجُوعُ إِلَى الْيَقِينِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى تَحْصِيلِ الْيَقِينِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكْتَفِيَ فِيهِ بِالظَّنِّ، وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ اللَّائِقُ بِمَسَاقِ الْآيَةِ، لِأَنَّهَا لَمَّا دَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ التَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ وَالْمُكَلَّفُ إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى تَحْصِيلِ الْعِلْمِ لَا يَجُوزُ لَهُ الِاكْتِفَاءُ بِالظَّنِّ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ طَلَبُ الْيَقِينِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: الْقَادِرُ عَلَى تَحْصِيلِ الظَّنِّ دُونَ الْيَقِينِ. وَاعْلَمْ أَنَّ لِتَحْصِيلِ هَذَا الظَّنِّ طُرُقًا:
الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ: الِاجْتِهَادُ وَظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْتَضِي أَنَّ الِاجْتِهَادَ يُقَدَّمُ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى قَوْلِ الْغَيْرِ وَهُوَ الْحَقُّ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: قوله تعالى: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ الْحَشْرِ: 2 أَمْرٌ بِالِاعْتِبَارِ، وَالرَّجُلُ قَادِرٌ عَلَى الِاعْتِبَارِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ الْأَمْرُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ ذَلِكَ الْغَيْرَ إِنَّمَا وَصَلَ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ بِالِاجْتِهَادِ، لِأَنَّهُ لَوْ عَرَفَ الْقِبْلَةَ بِالتَّقْلِيدِ أَيْضًا لَزِمَ إِمَّا التَّسَلْسُلُ أَوِ الدَّوْرُ وَهُمَا بَاطِلَانِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الِانْتِهَاءِ آخِرَ الْأَمْرِ إِلَى الِاجْتِهَادِ فَيَرْجِعُ حَاصِلُ الْكَلَامِ إِلَى أَنَّ الِاجْتِهَادَ أَوْلَى أَمْ تَقْلِيدَ صَاحِبِ الِاجْتِهَادِ؟
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى لِأَنَّهُ إِذَا أَتَى بِالِاجْتِهَادِ فَلَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ احْتِمَالُ الخطأ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِذَا قَلَّدَ صَاحِبُ الِاجْتِهَادِ فَقَدْ تَطَرَّقَ إِلَى عَمَلِهِ احْتِمَالُ الْخَطَأِ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مَتَى وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ طَرِيقَيْنِ فَأَقَلُّهُمَا خَطَأً أَوْلَى بِالرِّعَايَةِ. وَثَالِثُهَا:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا منه ما استطعتم»
فههنا أُمِرَ بِالِاسْتِقْبَالِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي الطَّلَبِ فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ صَاحِبَ «التَّهْذِيبِ» ذَكَرَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي قَرْيَةٍ كَبِيرَةٍ فِيهَا مَحَارِيبُ مَنْصُوبَةٌ إِلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ وَجَدَ مِحْرَابًا أَوْ عَلَامَةً لِلْقِبْلَةِ فِي طَرِيقٍ هِيَ جَادَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَيْهَا وَلَا يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِي الْجِهَةِ، قَالَ: لِأَنَّ هَذِهِ الْعَلَامَاتِ كَالْيَقِينِ، أَمَّا فِي الِانْحِرَافِ يَمْنَةٌ أَوْ يَسْرَةٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ مَعَ هَذِهِ الْعَلَامَاتِ وَكَانَ عَبْدُ اللَّه بْنُ الْمُبَارَكِ يَقُولُ بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنَ الْحَجِّ: تَيَاسَرُوا يَا أَهْلَ مَرْوَ وَكَذَلِكَ لَوْ أَخْبَرَهُ مُسْلِمٌ بِأَنْ قَالَ، رَأَيْتُ غَالِبَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ اتَّفَقُوا عَلَى هَذِهِ الْجِهَةِ فَعَلَيْهِ قَبُولُهُ وَلَيْسَ هَذَا بِتَقْلِيدٍ، بَلْ هُوَ قَبُولُ الْخَبَرِ مِنْ أَهْلِهِ كَمَا فِي الْوَقْتِ، وَهُوَ مَا إِذَا/ أَخْبَرَهُ عَدْلٌ: إِنِّي رَأَيْتُ الْفَجْرَ قَدْ طَلَعَ أَوِ الشَّمْسَ قَدْ زَالَتْ يَجِبُ قَبُولُ قَوْلِهِ، هَذَا كُلُّهُ لَفْظُ صَاحِبِ «التَّهْذِيبِ» ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُشْكِلٌ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلتَّقْلِيدِ إِلَّا قَبُولُ قَوْلِ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ وَلَا شُبْهَةٍ، فَإِذَا قَبِلْنَا قَوْلَ الْغَيْرِ أَوْ فِعْلَهُ فِي تَعْيِينِ الْقِبْلَةِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ وَلَا شُبْهَةٍ كَانَ هَذَا تَقْلِيدًا، وَنَحْنُ قَدْ ذَكَرْنَا الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الِاجْتِهَادِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِالِاجْتِهَادِ.
وَثَانِيهَا: أَنَّهُ جَوَّزَ الْمُخَالَفَةَ فِي الْيَمِينِ وَالْيَسَارِ بِنَاءً عَلَى الِاجْتِهَادِ فَنَقُولُ: هُوَ قَادِرٌ عَلَى تَحْصِيلِ الظَّنِّ بِنَاءً عَلَى الِاجْتِهَادِ الَّذِي يَتَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ، فَوَجَبَ أَنْ تَجُوزَ لَهُ الْمُخَالَفَةُ كَمَا فِي الْيَمِينِ وَالْيَسَارِ. وَثَالِثُهَا: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا مِنَ الِاجْتِهَادِ، أَوْ مِنَ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الِاجْتِهَادِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ مُعَاذًا لَمَّا قال: اجتهد برأي مدحه الرسول