أَنَّ بَطْلَيْمُوسَ رَصَدَ الثَّوَابِتَ فَوَجَدَهَا تَقْطَعُ فِي كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ دَرَجَةً وَاحِدَةً وَالْمُتَأَخِّرُونَ رَصَدُوهَا فَوَجَدُوهَا تَقْطَعُ فِي كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ دَرَجَةً وَنِصْفًا، وَهَذَا تَفَاوُتٌ عَظِيمٌ يَبْعُدُ حَمْلُهُ عَلَى التَّفَاوُتِ فِي الْآلَاتِ الَّتِي تَتَّخِذُهَا الْمَهَرَةُ فِي الصِّنَاعَةِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْصَاءِ، فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى ازْدِيَادِ الْمَيْلِ وَنُقْصَانِهِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْقَوْلَ بِثُبُوتِ الْفَلَكِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: احْتَجُّوا عَلَى أَنَّ الْكَوَاكِبَ الثَّابِتَةَ مَرْكُوزَةٌ فِي فَلَكٍ فَوْقَ أَفْلَاكِ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ، فَقَالُوا: شاهدنا لهذا الْأَفْلَاكِ السَّبْعَةِ حَرَكَاتٍ أَسْرَعَ مِنْ حَرَكَاتِ هَذِهِ الثواب، وَثَبَتَ أَنَّ الْكَوَاكِبَ لَا تَتَحَرَّكُ إِلَّا بِحَرَكَةِ الْفَلَكِ، وَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ هَذِهِ الثَّوَابِتِ مَرْكُوزَةً فِي كُرَةٍ سِوَى هَذِهِ السَّبْعَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَرْكُوزَةً فِي الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ لِأَنَّهُ سَرِيعُ الْحَرَكَةِ، يَدُورُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ دَوْرَةً وَاحِدَةً بِالتَّقْرِيبِ، ثُمَّ قَالُوا: إِنَّهَا مَرْكُوزَةٌ فِي كُرَةٍ فَوْقَ كُرَاتِ هَذِهِ السَّبْعَةِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ قَدْ تَكْسِفُ تِلْكَ الثَّوَابِتَ، وَالْكَاسِفُ تَحْتَ الْمَكْسُوفِ، فَكُرَاتُ هَذِهِ السَّبْعَةِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ دُونَ كُرَاتِ الثَّوَابِتِ.
وَهَذَا الطَّرِيقُ أَيْضًا ضَعِيفٌ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّا لَا نسلم أن الكواكب لَا يَتَحَرَّكُ إِلَّا بِحَرَكَةٍ فَلَكِيَّةٍ، وَهُمْ إِنَّمَا بَنَوْا عَلَى امْتِنَاعِ الْخَرْقِ عَلَى الْأَفْلَاكِ، وَنَحْنُ قَدْ بَيَّنَّا ضَعْفَ دَلَائِلِهِمْ عَلَى ذَلِكَ. وَثَانِيهَا: سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ لِهَذِهِ الثَّوَابِتِ مِنْ كُرَاتٍ أُخْرَى إِلَّا أَنَّ مَذْهَبَكُمْ أَنَّ كُلَّ كُرَةٍ مِنْ هَذِهِ الْكُرَاتِ السَّبْعَةِ تَنْقَسِمُ إِلَى أَقْسَامٍ كَثِيرَةٍ، وَمَجْمُوعُهَا هُوَ الْفَلَكُ الْمُمَثَّلُ وَأَنَّ هَذِهِ الْمُمَثَّلَةَ بَطِيئَةُ الْحَرَكَةِ عَلَى وِفْقِ حَرَكَةِ كُرَةِ الثَّوَابِتِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الثَّوَابِتُ مَرْكُوزَةٌ فِي هَذِهِ الْمُمَثَّلَاتِ الْبَطِيئَةِ الْحَرَكَةِ، فَأَمَّا السَّيَّارَاتُ فَإِنَّهَا مَرْكُوزَةٌ فِي الْحَوَامِلِ الَّتِي هِيَ أَفْلَاكٌ خَارِجَةُ الْمَرْكَزِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا حَاجَةَ إِلَى إِثْبَاتِ كُرَةِ الثَّوَابِتِ. وَثَالِثُهَا: هَبْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ كُرَةٍ أُخْرَى فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ كُرَتَانِ إِحْدَاهُمَا فَوْقَ كُرَةِ زُحَلَ، وَالْأُخْرَى دُونَ كُرَةِ الْقَمَرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ السَّيَّارَاتِ لَا تَمُرُّ إِلَّا بِالثَّوَابِتِ الْوَاقِعَةِ فِي مَمَرِّ تِلْكَ السَّيَّارَاتِ، فَأَمَّا الثَّوَابِتُ الْمُقَارِبَةُ لِلْقُطْبَيْنِ فَإِنَّ السَّيَّارَاتِ لَا تَمُرُّ بِشَيْءٍ مِنْهَا وَلَا تُكْسِفُهَا، فَالثَّوَابِتُ الَّتِي تَنْكَسِفُ بِهَذِهِ السَّيَّارَاتِ هَبْ أَنَّا حَكَمْنَا بِكَوْنِهَا مَرْكُوزَةً فِي كُرَةٍ فَوْقَ كُرَةِ زُحَلَ، أَمَّا الَّتِي لَا تَنْكَسِفُ بِهَذِهِ السَّيَّارَاتِ فَكَيْفَ نَعْلَمُ أَنَّهَا لَيْسَتْ دُونَ السَّيَّارَاتِ فَثَبْتَ أَنَّ الَّذِي قَالُوهُ غَيْرُ بُرْهَانِيٍّ بَلِ احْتِمَالِيٌّ.
الْبَحْثُ الرَّابِعُ: زَعَمُوا أَنَّ الْفَلَكَ الْأَعْظَمَ حَرَكَتُهُ أَسْرَعُ الْحَرَكَاتِ فَإِنَّهُ يَتَحَرَّكُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ قَرِيبًا مِنْ دَوْرَةٍ تَامَّةٍ، وَأَنَّهُ يَتَحَرَّكُ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ.
وَأَمَّا الْفَلَكُ الثَّامِنُ الَّذِي تَحْتَهُ فَإِنَّهُ فِي نِهَايَةِ الْبُطْءِ حَتَّى إِنَّهُ يَتَحَرَّكُ فِي كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ دَرَجَةً عِنْدَ بَطْلَيْمُوسَ، وَعِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي كُلِّ سِتَّةٍ وَسِتِّينَ سَنَةً دَرَجَةً، وَأَنَّهُ يَتَحَرَّكُ مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ عَلَى عَكْسِ الْحَرَكَةِ الْأُولَى، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّا لَمَّا رَصَدْنَا هَذِهِ الثَّوَابِتَ وَجَدْنَا لَهَا حَرَكَةً عَلَى خِلَافِ الْحَرَكَةِ الْيَوْمِيَّةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْفَلَكَ الْأَعْظَمَ يَتَحَرَّكُ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ دَوْرَةً تَامَّةً، وَالْفَلَكَ الثَّامِنَ أَيْضًا يَتَحَرَّكُ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ دَوْرَةً إِلَّا بِمِقْدَارٍ نَحْوَ عُشْرِ ثَانِيَةٍ فَلَا جَرَمَ نَرَى حَرَكَةَ الْكَوَاكِبِ فِي الْحِسِّ مُخْتَلِفَةً عَنِ الْحَرَكَةِ الْأُولَى بِذَلِكَ الْقَدْرِ الْقَلِيلِ فِي خِلَافِ جِهَةِ الْحَرَكَةِ الْأُولَى، فإذا اجتمعت تلك المقادير أحس كأن الكواكب الثَّابِتَ يَرْجِعُ بِحَرَكَةٍ بَطِيئَةٍ إِلَى خِلَافِ جِهَةِ الْحَرَكَةِ الْيَوْمِيَّةِ، فَهَذَا الِاحْتِمَالُ وَاقِعٌ، وَهُمْ مَا أَقَامُوا الدَّلَالَةَ عَلَى إِبْطَالِهِ، ثُمَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: وَهُوَ بُرْهَانِيٌّ، أَنَّ حَرَكَةَ الْفَلَكِ الثَّامِنِ لَوْ كَانَتْ إِلَى خِلَافِ حَرَكَةِ الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ لَكَانَ حِينَمَا